جريدة الجرائد

شرطان لنستفيد من دراسة التاريخ: نزع القداسة، والاتصال...

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

حسن إسميك

حُكي في التاريخ كثيراً وتحدث عنه الكثيرون، وهذا أمر يصح على كل تاريخ عموماً وعلى تاريخنا العربي الإسلامي خصوصاً. ولكن رغم كثرة الحديث والمتحدثين فيه، يبقى تاريخنا أكبر من أن تُستنفذ الكتابة حوله، وتبقى مشكلات اتصالنا به أعقد مما نظن، إذ إنه ليس مجرد تاريخ مضى وانقضى، بل هو حيٌّ فينا حتى بعد مرور قرابة خمسة عشر قرناً على الأقل، أو عشرين قرناً في المتوسط، وهذه مدة تاريخية طويلة مقارنة بأغلب الأمم.

لماذا نقرأ التاريخ؟ نحن في الحقيقة لا نقرأه حباً بالمطالعة فحسب، بل وندرسه دراسات أكاديمية معمقة، إذ تكاد توجد الأقسام المختصة به في أغلب كليات العلوم الإنسانية، كما أنه موضوع رئيس ومقدمة لا بد منها في اختصاصات أخرى، كالفلسفة والسياسة والدين وكل شأن إنساني، فلا يكاد يخلو أي مجال علمي أو معرفي من المقدمات التاريخية التي ينبغي على كل مختص معرفتها بحدٍ أدنى يختلف بين مجال وآخر. ورغم كل عنايتنا هذه بالتاريخ، ما زلنا لا نحصّل منه فائدة تُذكر، بل جعلناه مستودعاً للسرديات المكرورة التي نستحضرها لجلد ذواتنا وتخدير عقولنا.

كتابة التاريخ وقراءته نشاط معرفي قديم جداً، ونحن إذ ننسب علم التاريخ إلى هيرودوت ولقبه (أبو التاريخ)، إلا أن اكتشاف أهميته لم يحدث دفعة واحدة، بل ما زلنا حتى اليوم نكتشف رؤى وجوانب جديدة لهذه الأهمية، إذ يتعمق تقديرنا للتاريخ ووعينا بفائدته طرداً مع تعمق فهمنا للظاهرة الإنسانية واتصال حاضرها بماضيها. والمؤسف في حالنا نحن العرب أننا ما زلنا عاجزين عن تقديم مشروع جاد لقراءة التاريخ يضاهي مشروع سلفنا ابن خلدون وقد مضى عليه أكثر من ستمئة عام.

وأرى أننا اليوم بحاجة للتسليم بفرضين اثنين رئيسين كي نتمكن من تصحيح علاقتنا بالتاريخ. الفرض الأول أن للبشرية كلها تاريخاً واحداً ومتصلاً، وأن جميع الأمم اليوم هم شركاء في التاريخ العام وهم ثمرته الحاضرة، والتاريخ بهذا المعنى سلسلة عظيمة ترتبط بحلقاتها سلاسل فرعية تطول وتقصر للأمم المتزامنة والمتعاقبة. بمعنى آخر: البشر شركاء جميعاً في التاريخ العام ولكل أمة تاريخها المخصص في الوقت ذاته.

الفرض الثاني مشتق من الأول، ويستند إلى أن التراكم صفة أصيلة في ولادة الأمم واستمرارها وتطورها، هذا يعني أنه لا يمكن لأي أمة أن تقيم قطيعة حقيقية مع تاريخها، بل هي متصلة به اتصالاً عضوياً يستحيل الفكاك منه. وتاريخ الأمم ليس ما هو مكتوب في بطون الكتب، بل ما هو متجذر اليوم في لغتها ووعيها الجمعي وعاداتها وقيمها وتقاليدها، فهو ليس ماض مضى وانقضى، وإنما حاضر مشهود ومستمر للمستقبل أيضاً.

إذا سلمنا بهذين الفرضين تسليماً حقيقياً، فإن أول نتائجهما هو ترسيخ الاعتقاد الجازم بأن التاريخ صنعة بشرية، ومع أن هذا القول يبدو كتحصيل حاصل على المستوى النظري، إلا أنه ليس كذلك في الواقع الفعلي لدينا نحن العرب، فتاريخُنا.. وسواء حددناه بالعربي أو الإسلامي، أو بكليهما، لا ينفصل في لاوعينا عن القداسة التي نحملها تجاه ديننا، حتى لقد أصبح مصطلح "التاريخ الإسلامي" بحد ذاته مصطلحاً غير محايد ومنطوياً على عدة أحكام مسبقة ومتناقضة، خاصة أنه يترادف مع "تاريخ الإسلام" نفسه. ولأنه ثمة فرق بين أن تؤرخ لدين مقدس بما فيه من قيم مثلى وحقائق مطلقة، وأن تؤرخ لمجتمع بشري بنقاط ضعفه وقوته، وبخصال جشعه وعدوانه وعنفه، بسبب هذا الفرق الكبير، أصبح لدينا تاريخ مبتسر وأيديولوجي، خضع عبر مئات السنين للتنقية والتطهير بغية الإمعان في تظهير نقائه وصفائه. لذلك لا عجب أنه كلما تردد على مسامع العامة لفظ "التاريخ الإسلامي" يسارع خيالهم إلى تصور مرحلة ذهبية وماض "مشرق" وفردوس مفقود يتطلعون إلى استعادته مرة أخرى، غير أن التاريخ كالزمن الذي انقضى، لا يُستعاد أبداً، بل تُستعاد منه الدروس والعِبر.

إن توهم قداسة تاريخنا كأمة، والذي استمديناه من قداسة الدين، جعلنا نعيش في الماضي ظناً أننا نتمثل جوهر الدين، وهذا أمر مضرّ بالاثنين، فالدين ولكونه مقدساً ومطلقاً، لا تنطبق عليه صفة الزمانية والنسبية، بل ثابت ذو ديمومة واحدة مستمرة، سواء الآن أو كما هو منذ أربعة عشر قرناً. لكننا بالخلط بين تاريخ الدين (الإسلام) وتاريخنا البشري (العرب) أسبغنا بعض الزمانية على الأول، ومنحنا بعض الإطلاقية للثاني!

لا شك أن تاريخنا يتقاطع في نقاط عدة منه مع الإسلام، وبخاصة في مراحله الأولى حيث نزول الوحي وتأسيس المجتمع الإسلامي، لكن اكتمال الدين الإسلامي مع وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تقدم القرون وتأسيس الدول الإسلامية واتساعها وتتاليها وتعدد أعراقها وأممها، يجعل الدين مكوناً من مكونات تاريخ هذه الأمم، ومن ضمنها أمتنا العربية، ورغم أهمية هذا المكوّن فهو لا يلغي المكونات والعوامل الأخرى المؤثرة في تاريخ الأمم والجماعات، وعلى هذه العوامل الأخرى يجب أن ينصب اهتمامنا، والتي هي أصلاً سنن الله في خلقه، فالله هو الذي خلقنا شعوباً وقبائل نتمايز عن بعضنا بعضاً ونتعارف بأصولنا وإثنياتنا ولغاتنا، وبالطباع والعادات والتقاليد، وحتى المصائر، حتى لو كان ديننا واحداً.

ونحن في الحقيقة أسرى التاريخ لأننا نقدسه كله، ولفظ "أسرى التاريخ" هو البديل المنمق عن حقيقة أننا "أسرى الماضي" والعاجزون عن اللحاق بالحاضر. ووقوعنا في أسر الماضي أمر لا يحدث لأسباب انفعالية ذاتية، ولا يمكن أن يكون نتيجة لرغبتنا أو قرارنا العاطفي، إذ لا أحد يتقصد التمسك بما يضره ولا ينفعه، نحن في الحقيقة أسرى الماضي لأسباب معرفية بالدرجة الأولى، وهذا أمر حسن في اعتقادي، لأنه يجعل إمكان التخلص من هذا الأسر أسهل بكثير حين تتوفر الإرادة.

إن هيمنة ماضينا (أو تاريخنا) على حاضرنا تعني أننا ما زلنا عاجزين عن قراءة هذا التاريخ قراءة نقدية جادة ترتبط أهدافها بصناعة حاضر مشرق لا بإثبات ماض مشرق، ولذلك ما زال تاريخنا محشواً بالأسطرة والخيال، وهذا ما يجعلنا عاجزين عن إلحاق تاريخنا بحاضرنا، بل نسير دوماً عكس ما يقتضيه التوجه الطبيعي لحركة الزمان، فترانا نُلحق الحاضر بالماضي، وهكذا يتعطل الزمان وينعدم المستقبل.

إن تكريس مفهوم "التاريخ المُشرق" بحد ذاته (أو الماضي المشرق / والمعنى واحد) هو تناقض سافر يعكس حيرتنا الشديدة إزاء التعامل مع ماضينا، إذ كيف للإشراق، والذي يعني البداية والتقدم للأمام، أن يكون خلف ظهورنا بدل أن يكون وجهتنا المقبلة؟

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف