من بلد واعد إلى جبهة حرب مستمرة: لبنان في عقائد إيران
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
استفاقت إيران باكراً على أهمية لبنان الجيو-استراتيجية. ظهرت قوات للحرس الثوري في بعلبك شمال شرقي البلاد في السنوات الأولى التي تلت قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979. استفادت من فوضى الحرب الأهلية في هذا البلد، ومن فراغ أحدثه الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، ومن إخلاء منظمة التحرير الفلسطينية لقواتها آنذاك. استفادت أيضاً من تواطؤ للنظام السوري بقيادة حافظ الأسد، ومن فضاء أيديولوجي مفتوح ينهل من وهج "الثورة" التي قادها الخميني وأحدثت موجات حاضنة في المنطقة. وفيما كان لبنان يلملم كينونته ويسعى منذ اتفاق الطائف عام 1989 إلى إعادة انتشال الصيغة اللبنانية، كانت إيران تستثمر بشكل منهجي، متدرّج، للالتفاف على ما أملاه دستور الطائف من ثوابت بدت أكثر حزماً في تأكيد نهائية لبنان كدولة مستقّلة ذات سيادة ونهائية هويته العربية. اختصر السيّد حسن نصر الله المشروع الإيراني، في خطاب ألقاه قبل عقود، هدف حزب الله في إقامة دولة إسلامية في لبنان تكون تابعة للجمهورية الإسلامية في إيران. لم تراعِ إيران، من خلال العناوين الأولى التي أفرج عنها مشروع إقامة هذه الدولة، أن لبنان بلد تعدّد وتعايش بين المسلمين والمسيحيين على نحو لا يقوم فيه مشروع إسلامي مصادر لهوية مسيحييه. ولم تراعِ الدعوة إلى أن يكون إسلام الدولة المتوخاة شيعياً تابعاً لولاية الفقيه في طهران، أن ذلك مخالف لعقائد سنّة لبنان ومذاهب البلد الأخرى. وبدا من مشاريع إيران وطموحاتها ما لا يعترف بثوابت وأعراف وقواعد وأصول ثبت بعد ذلك أنها لا تنال فقط من لبنان بل من المنطقة برمّتها. كان لبنان حاضراً بقوة داخل السياق "الإمبراطوري" الذي تسعى إليه طموحات الوليّ الفقيه وثورته. انتظرت إيران زوال نظام صدام حسين حتى تفيض أطماعها صوب البحر الأبيض المتوسط، مخترقة العراق وسوريا ولبنان. لم تعترف يوماً بالدولة اللبنانية إلا من خلال ما يوفّره حزبها في لبنان من فائض نفوذ تناسل من فائض سلاح. وفيما كان لبنان مركز تقاطع للعالم العربي يسبح في فضائه، عملت طهران وحزبها بدأب ومثابرة على إبعاد البلد عن محيطه وهويته وجعله، بسياق من عنف ممنهج واغتيالات سياسية وإطباق محكم على منظومة الحكم فيه، كياناً عليلاً تتمّ محاصرة دستوره ببدع لا تحترم نصوصاً وتقاليد وتقطع أوصال علاقاته مع فضائه العربي والدولي الكبير. بات لبنان يمثّل أجندة إيران داخل جامعة الدول العربية. وبات العرب يعرفون الموقف الحقيقي لإيران من قضاياهم من خلال ما يصدر عن الحزب ومنابره ضدهم أو ما تعبّر عنه دبلوماسية حكومات بيروت. وبدت الدول الكبرى ذاهبة إلى مقاربة العلاقة مع بيروت وفق مسلّمة، لم تخفها طهران، أنها عاصمة ساقطة داخل النفوذ الإيراني في المنطقة، على منوال مصير عواصم عربية ثلاث أخرى. وكان للمجتمع الدولي يدٌ ضالعة في هذا "القدر". حين قامت جماعات تابعة لإيران باختطاف رهائن غربيين في لبنان في الثمانينيات، تعامل الغرب مع هذا الأمر الواقع وذهب مفاوضاً مراعياً قابلاً بقواعد هذه اللعبة. وحين فجّرت هذه الجماعات سفارة الولايات المتحدة ومقرات قوات المارينز والقوات الفرنسية في بيروت عام 1983، ردّت الولايات المتحدة، برئاسة رونالد ريغن، وفرنسا، برئاسة فرانسوا ميتران بسحب قواتهما وترك البلد لمصيره. عرفت إيران حينها أن العالم قبل بها وبأمرها الواقع. تعامل المجتمع الدولي برمته مع إيران مرجّحاً مصالحه في ظل غضب عربي عام من شيوع ميليشياتها في المنطقة. بدا أن لـ"الجماعات"، أياً كانت مذاهبها وعقائدها وأجنداتها، عنواناً حاضناً في طهران. وعلى أساس هذا الواقع عقدت واشنطن شراكة مع إيران لإسقاط نظام طالبان في أفغانستان عام 2001 ونظام البعث في العراق عام 2003. وعلى أساس هذه الشراكة في نسخات متطوّرة تقاطعت مصالح الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا من جهة، ومصالح روسيا والصين من جهة أخرى، لإبرام اتفاق فيينا لعام 2015 بشأن برنامج إيران النووي. رتبت إدارة باراك أوباما في واشنطن تفاصيل "الصفقة" وهندست مداخلها ومخارجها. تطلّب ذلك تسامحاً مع نفوذ إيران في لبنان، حتى لو أدى ذلك إلى تفاقمِ سطوةٍ فكّكت أدوات الدولة واغتالت رموزها وصولا إلى انهيار اقتصادي تاريخي غير مسبوق منذ استقلاله. أدارت "الأوبامية" الظهر للتمدد الإيراني داخل هلال يصل طهران ببيروت. حتى أإنه حين أعلنت المحكمة الدولية الخاصة، المُنشأة بقرار من مجلس الأمن، أن من اغتال رئيس وزراء لبنان السابق، رفيق الحريري، هم عناصر تابعون لحزب إيران في لبنان. سكت مجلس الأمن الوصي على محكمته عن إيران وعن حزبها، فطوى ملف الاتفاق ملف الجريمة. يبدو لبنان اليوم بوابة إيران المتقدمة دفاعاً عن أسوارها وعليه، في عرف طهران، أن يبقى جبهة مشتعلة حتى لو بقي جبهتها الوحيدة. لم تسمح طهران لبيروت بأن تسعى إلى وقف الحرب. عجّلت في إرسال وزير خارجيتها، عباس عراقجي، للانقلاب على قرار مشترك كان اتخذه رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، ورئيس مجلس النواب، نبيه بري، يقضي بالقبول بوقف إطلاق النار والقبول بالقرار الأممي رقم 1701 وإرسال الجيش إلى جنوب الليطاني والذهاب إلى انتخاب رئيس "توافقي" للجمهورية. وضع عراقجي إملاءات وشروطاً مفادها أن أمر لبنان يُقرر في طهران لا في بيروت، وأن شروط أي حلّ هو في يد الحزب. أرسلت طهران بعد أيام رئيس مجلس الشورى، محمد باقر قاليباف، لتؤكد، من جديد، من بيروت، أن إيران هي الحاضرة الوحيدة في سياسات لبنان وميادينه، وهي من تحمل مفاتيح أي سلم وأي حرب ترسم مصيره.