الشِدِّي.. قنطرة بين جيلين
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الفيلسوف الإيطالي “أنطونيو غرامشي 1891-1937” من أبرز إن لم يكن أول من تصدى للإجابة على السؤال البنيوي الملح (من هو المثقف؟) حيث يقول (كل الناس مثقفون، لكن ما يميز بين المثقفين، وغير المثقفين هو الوظيفة الاجتماعية المباشرة التي يؤديها المثقف في المجتمع، وما يقدمه لمجتمعه، ذلك الدور الذي لا يمتلكه إلا أصحاب الكفاءات الفكرية العالية الذين يمكنهم التأثير على الناس).
كما يُعَرِّف الفيلسوف الأمريكي الفلسطيني الأصل “إدوارد سعيد 1935-2003” “المثقف” بأنه (الشخص الذي يسعى بكل جد واجتهاد لتصحيح المسارات المجتمعية الخاطئة أو المنحرفة، بالعمل الدؤوب العاقل والممنهج. لا بالخطب الرنانـة، ولا من خلال الحـراك الجماهيري الهستيري). بفضل النهضة العلمية والفكرية التي عاشتها وتعيشها بلادنا الغالية، ظهر العديد من المثقفين البارزين، ومن تلك الكوكبة الكريمة الأستاذ الراحل” محمد بن أحمد الشدي” رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته لقاء ما قام به من أعمال جليلة، وما قدمه من جهود رائعة لبلاده الغالية، ولمجتمعه العزيز، خاصة في مجال الإعلام والثقافة والفنون، تلك الأعمال التي نسجها له التاريخ الثقافي والأدبي بخيوط من ذهبٍ مصفى.
كان الأستاذ الكبير “محمد بن أحمد الشدي” رحمه الله - رمزًا خالدًا من رموز الثقافة، وسادنًا أمينًا من سدنة الإعلام، وحاديًا متألقًا من حُدَاة الفنون، حيث وَرَّثنا خزينة ملأ بالمبادرات الثقافية والفنية والإعلامية التي كان لها ولا يزال ألقًا مضيئًا في سماء الوسط الثقافي والفني السعودي.
عرفتُ هذا الرجل الوقور المتواضع عن كثب، فقد كنت مولعًا بمتابعة ما كان يخطه يراعه السيّال، حين كان رئيسًا لتحرير” مجلة اليمامة الغراء” ومشرفًا على “مجلة التوباد العربية الثقافية” و “مجلة الجيل الشبابية” فلم يكن كاتبًا صنائعيًّا، ولا أديبًا رعاعيًا، بل كان قلمًا رصينًا، ومثقفًا عضويًا. كما كان لي شرف العمل تحت إدارته المستنيرة مديرًا لفرع “الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون” في “منطقة القصيم” فلم يكن مجرد مدير بيروقراطي متخشب، بل كان قائدًا استثنائيًّا مقداما، يتعامل بروح النظام ويحرص على حمايته، مع الاتسام بالمرونة والقدرة على التكيف مع المتغيرات. غرس في جميع الفُرَق العاملة معه ملكة التفاهم، وأّصَّل فيهم عِشْق الحوار، وبذر فيهم محبة الثقافة، وأشعل فيهم جذوة الفنون. كما ترك بصمة لا تُمحى في قلوب كل من تعاملوا معه وعرفوه. فقد كان - رحمه الله &- مثلًا أعلى في العطاء، وقدوة متميزة في الإخلاص، وأنموذجًا حيًّا في السعي الدائم لتطوير قدرات الشباب وأصحاب المواهب، وصقل ابداعاتهم، وتحفيزهم على التجديد والابتكار.
بفضل الجهود الدؤوبة من لدن “الأستاذ محمد الشدي” تمكنت “الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون” التي كان يرأس مجلس إدارتها بكل مهنية واقتدار، لتصبح مركزَ إشعاعٍ فكري نابض، كما أسهمت رؤيته العميقة في تعزيز المشهد الثقافي في “المملكة” حيث أطلق العديد من المبادرات التي لا تزال تُلهم الفنانين والمثقفين. مما جعله يحظى بشعبية واسعة بين عشاق الأدب وأصحاب الفنون. كما كان &- رحمه الله - يتحلى بالمصداقية ويتصف بالموضوعية، مما أكسبه ثقة زملائه وجميع من تعاملوا معه. وستظل مساهمات الأستاذ “أبي عبد العزيز” وإرثه المعرفي حاضرة، بكل وضوح وجلاء في المشهد الوطني الثقافي والفني، وستظل ذكراه العطرة شاخصةً في كل زاوية من زوايا “الجمعية” التي أحبها، فكان لها قلبًا نابضًا وروحًا متجددة، وأحبته فكانت له رَحِمًا دافئا ودوحةً وارفة الظلال.
لقد كان “الأستاذ محمد بن أحمد الشدي” قنطرةً بين جيلين، جيل الآباء المؤسسين لأدبنا الحديث، والجيل الرائع الصَدَّاح الذي جاء من بعدهم. مُشجعًا تبادل الأفكار ومعززًا الثقة بين جميع الأطياف الثقافية والفنية، حتى أمسى مشكاةً ساطعةً تُضيء دروب الباحثين عن المعرفة. ولما يمتلكه من شخصية معطاءة في الساحة الإعلامية، فقد ترك إرثًا غنيًّا سيثري ساحتنا الثقافية لعقود طويلة.
عَمِلَ المُعَلِّم “محمد الشدي” سامتًا، ورَحَلَ صامتًا، وارتقى إلى الرفيق الأعلى بسكينة وجلال ووقار. أسأل الله تعالى أن يمطر على ترابه الطاهر شآبيب الرحمة، ويجعل مقامه في الفردوس الأعلى من جنة الخُلد.