جريدة الجرائد

العودة للدولة أو البقاء في الثورة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

بعد التَّعرفِ على جثةِ يحيى السنوار سارعَ نتنياهو قائلاً: «أثبتنا اليوم أنَّ كل الذين حاولوا إيذاءنا سيكون هكذا مصيرهم»، وأضاف: «أظهرنا كيف تنتصر قوى الخير على قوى الشر والظلام»؛ على الضفة الأخرى جاء الرد: إن سقط مقاوم سينهض آخر، وإن الحرب سجال. هذه السردية الفنائية هي العلامة الأبرز في الصراع على فلسطين، والضحية دوماً شعوب المنطقة، ومواردها، ومستقبلها، لأن قضية فلسطين أصبحت مفتاح عبور لقادة طامحين، ودول متصارعة على النفوذ والهيمنة. بهذا تحولت فلسطين إلى قضية موازين قوى، ومصالح، وقيم، ومكاسب تجارية، والأهم إلى تنور يفور منه التعصب الديني طامراً كل تسوية ممكنة؛ فوزراء إسرائيل، وقادتها اقتبسوا، من العرب، نظرية إلقاء إسرائيل في البحر، وأشهروا نظرية حقهم الإلهي بفلسطين وطرد الفلسطينيين منها. والمفارقة أن قادة إسرائيل المنادين، منذ قيام دولتهم، بأن السلام غايتهم والتعايش هدفهم، تحولوا الآن، أمام الضعف العربي، والاستغلال الخارجي للقضية، إلى صقور يريدون رمي شعب فلسطين في البحر. بهذا الانقلاب السوريالي الخالي من أي ومضة عقل تعود القضية إلى مربعها الأول وبعنوانها العريض: «الحرب سجال، يوم لكم ويوم لنا».

المحزن أننا كعرب، وفي حالة ضعفنا، ما زلنا نكرر التجارب، ولا نجد بصيص ضوء يرشدنا إلى مخرج، وما زلنا نترفع عن المراجعة الموضوعية للصراع؛ وإن فعلنا سنجد ثلاث مراحل تستحق النظر والاعتبار: التجربة الناصرية العروبية، والتجربة الواقعية، والتجربة الثورية الإيرانية.

أولاً، التجربة الناصرية المؤسسة على القومية، وطرد الاستعمار، كانت البوصلة الموصلة لتحرير فلسطين؛ وتقوم على توحيد العرب حول زعيم، وتكريس الصوت الواحد، والتحالف مع السوفيات وتمثّل الاشتراكية في الاقتصاد والأفكار. هذه القومية قسَّمت العالم العربي إلى معسكرين، وخاضت الناصرية حروبها في اليمن، ودعمت انقلابات، وفتحت السجون للخونة، من أجل هدف: رمي إسرائيل في البحر. في 6 يونيو (حزيران) عام 67 خسرنا القدس وأراضي عربية، وتبين أن كل قدراتنا التصنيعية كانت كذباً؛ فكانت الصدمة التي هزَّت الوجدان العربي.

ثانياً: التجربة الواقعية: تبناها الرئيس السادات الذي عايش الهزيمة، وخبر السياسة، وتيقن أن هزيمة إسرائيل بوجود التأييد الأميركي مستحيلة، فتخلى عن الاشتراكية، وأطلق المعتقلين وبالذات الإسلاميين (فكافأوه بالقتل)، واستعد لمعركة لا تزيل إسرائيل إنما تجبرها على صلح مشرف يعيد الأرض المصرية، ويحل القضية الفلسطينية. لم يخض السادات حربه هوجاً بل تفاهم مع الملك فيصل، وخطط مع سوريا، ثم عبر خط بارليف، ووقع صلحاً مع إسرائيل استعاد به أرضه، ولكن العرب في لحظة الانتصار، رفضوا الصلح وأخرجوا مصر من الجامعة العربية، وشكلوا جبهة صمود سرعان ما انهارت بسبب الخلاف بين البعثين العراقي والسوري؛ ثم انقسم العرب في الحرب العراقية الإيرانية فانحازت ليبيا وسوريا لإيران، وانحاز الآخرون للعراق؛ ثم تتالت النكبات باجتياح العراق للكويت، واجتياح أميركا للعراق وما تبعه من ظهور الجماعات المسلحة العقائدية الرافضة للحدود، والمهددة لكيانات الدول العربية.

التجربة الثورية الإيرانية: مثلت خطراً ثورياً ووجودياً لأنها انطوت على عنصرين: الأول طابعها المذهبي الإمامي، وبه نبشت جراح الماضي حول مظلمة تاريخية مرَّ عليها ألف عام وأكثر. أما العنصر الثاني فتفتيت أنظمة العرب كلازمة لتحرير القدس: فأصبح الشعار تحرير القدس يمر بالعراق ثم القصير، واليمن، لتطويق الكيان بزنار نار ثوري إمامي: النتيجة انفجار الخلافات المذهبية في العراق وفي سوريا، وانغماس الأهل في اقتتال الأهل، ودمار أربع عواصم عربية، وإعلان وزير الاستخبارات الإيراني مصلحي أن بلاده تسيطر عليها، وتأكيده أن «الثورة الإيرانية لا تعرف الحدود وهي لكل الشيعة». واليوم نشاهد عياناً انهيار زنار النار، والخسارة الفادحة في السيادة والمال والأرواح.

استحضار هذه التجارب، بقدر من الوعي، والتجرد، يُظهر أن رؤية السادات الواقعية هي الأقل تكلفة لأنه دخل الحرب كبوابة لمعاهدة سلام ترتكز على عمودين: استرداد الأراضي المحتلة في 67، ثم إنشاء دولة فلسطينية بجانب إسرائيل؛ تحقق العمود الأول بالتضامن العربي، وفشل الثاني بسبب خلافات العرب. والتجربة الناصرية فشلت في الحرب، وخسرت الأراضي، وأدخلت مصر في عبادة الزعيم، وأدت كذلك التجربة الإيرانية، لم تنته بعد فصولها، إلى انهيار كيانات دول عربية، وتقاتل الأهل، وانتشار العداء لدرجة لم يعد ممكناً رأب اللحمة المجتمعية في بلداننا ولو على قضية فلسطين المقدسة.

نحن الآن أمام مفترق طرق: إما العودة إلى الدولة وترميم المجتمع، وإعادة بناء ما تهدم، أو الاستمرار بالثورة الإمامية بشعارتها الكارثية. فإذا اخترنا الدولة فيجب العودة مجبرين للواقعية السياسية، وبناء الدولة اقتصاداً ولحمةً اجتماعيةً ثم تعزيز قدراتنا العسكرية، وإن اخترنا الثورة (الإيرانية) فسنبقى متفرقين، وعاجزين، ومعتقدين أن هزائمنا انتصارات إلهية على طريق القدس.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف