جريدة الجرائد

ترمب الثاني

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

هذا حقاً، زمن اللامتوقع... فمن كان يظن أن دونالد ترمب سيعود، رغم مخالفاته ومحاكماته، خاصة أنه لم يسبق لرئيس أميركي أن فاز بالبيت الأبيض مرة ثانية، بعد خروجه منه، منذ فعلها جروفر كليفلاند قبل 139 عاماً.

كان ذلك في القرن التاسع عشر. أما ترمب فأعيد انتخابه بفارق 4 سنوات، وهو يقترب من الثمانين، أي ليس أصغر كثيراً من بايدن الذي عاب عليه خرفه، وبعد أن اقتحمت جماعاته مبنى الكابيتول في سابقة رهيبة، محاولاً قلب نتيجة فوز جو بايدن لصالحه. يومها أدانته وزارة العدل، واتهمته بـ«التحريض والمساعدة على الفتنة». هذه ليست كل مشاكل ترمب.

وجّهت له اتهامات، منها اعتداء جنسي وتشهير، وأدين بتهمة تزوير سجلات تجارية ومحاولة إسكات نجمة أفلام إباحية.

قصص هوليوودية لو ابتلي بربعها رئيس آخر، لأرسل إلى البيت. من ينسى المسكين بيل كلينتون، الذي أغرق بالفضيحة، واستجوب على الملأ، لعلاقة عابرة مع مونيكا لوينسكي المتدربة في البيت الأبيض، وكاد يطاح به.

لا يهم... نحن في زمن مختلف، وعلى مفصل تحولات مذهلة. فقد صفح الناخبون عن ترمب بطيب خاطر، وأصبح في نظر البعض هو المخلص، وتلك محنة كونية، تستحق مقالة منفردة. لم يشفع لكامالا هاريس شبابها، ولا دفاعها عن حقوق النساء المظلومات، أو ليبراليتها، ولا سمرة بشرتها، علماً أن السود في غالبيتهم الساحقة كانوا قد انتخبوا أوباما.

برنامج هاريس لم يكن مقنعاً ولا جذاباً، أدرك الجميع أنها امتداد هزيل لبايدن. وتم التغاضي عن تناقضات برنامج ترمب المزلزلة. لا تفهم كيف سيقلل الضرائب ولا تتضخم الديون الكارثية، وكيف يزيد الجمارك على المستوردات ويخفض الأسعار، في وقت واحد! ولا كيف له أن يفرض السلام ويستشرس على الصين! أو كيف يدّعي أن لا صلة له بالحرب في منطقتنا، وهو من رمى بذرة الفتنة، يوم منح القدس لإسرائيل هدية وفوقها الجولان، وعدّ الفلسطينيين نكرة لا وجود لهم!

رأينا حملات ومناظرات، أقرب إلى حفلات شتم، وتبادل اتهامات وابتذال. الناخب الأميركي، المطحون تحت ضغط المصاريف الباهظة، وصعوبة الوصول إلى نهاية الشهر، جلّ ما يهمه أنه في زمن ترمب الأول كان مدللاً، وأثناء وطأة «كورونا» وصلته الشيكات الوفيرة إلى باب الدار. ومع أن تبذير ترمب هذا، كان سبباً في الأزمة التي تلت، فإن المقترع لا يحب إرهاق نفسه بالنبش والتحليل.

قدّم ترمب نفسه للناخب بصورة الرجل القوي، الذي يمكنه أن يشعر بالمواطن العادي وهو يبيع الهمبرغر أو يقود شاحنة، ويغضب من بلد، كل ما فيه معطل. وهو الشخص الوحيد القادر على إعادة إحياء «المعجزة»، و«جعل أميركا عظيمة مجدداً». هكذا تمكن أن يضيف إلى قاعدته البيضاء والريفية، وجماعته المتدينة، شريحة الرجال الذين فروا من مبالغة هاريس النسوية، والشباب الصغار المصدومين من لا مبالاة الديمقراطيين في مواجهة الإبادة، والمسلمين الراغبين في وقف الحرب على غزة ولبنان، حتى شريحة من السود والإسبان. لجأ إلى حمى ترمب المندفع برغبته في الثأر، كل المحبطين الذين يفضلون المجازفة بتجريبه مرة أخرى، على البقاء في مراوحة الديمقراطيين القاتلة.

ما لم يلتفت إليه الناخبون هو الأدهى. سيطلق ترمب العنان للمدارس الدينية، ويعزز القوانين المحافظة، وينسحب كما وعد من اتفاقية المناخ للمرة الثانية، ويعاود الحديث عن عبثية الإنفاق على «الأطلسي». ومن الآن، بدأ استنفار أوروبا، التي عليها أن تحمي نفسها من دون الاعتماد على الحليف التاريخي، وبحث ما ستفعله بعد أن يشحّ السلاح على أوكرانيا. ماذا انتفعت أوروبا، بعد تحطيم أنابيب «ستريم»، ومعاداة روسيا، ومقاطعة الغاز وإفلاس شركاتها، طالما أن ترمب آتٍ لإعادة وصل ما انقطع مع بوتين؟! كما أن وجود ترمب على رأس أكبر قوة عالمية، بسلطة شبه مطلقة، بعد حصول الجمهوريين على غالبية مجلس الشيوخ، سيزجّ بأوروبا في أحضان التيارات اليمينية المتطرفة، المتصاعدة أصلاً، وها هي تهبّ عليها نفحة أكسجين منعشة.

أما الإبادة فمستمرة، وإسرائيل تتعزز بسطوة حليفها الحميم ترمب، الذي مهّد نتنياهو لوصوله بالتخلص من وزير دفاعه المزعج يوآف غالانت، عازماً (ولو أنكر) على استكمال انقلابه، بإقالة رئيس هيئة الأركان، ورؤساء الأجهزة الأمنية، لنصبح أمام جبروت «الملك نتنياهو» ومتطرفيه المجانين المستقوين بترمب الثاني.

الفارق الجوهري بين هاريس وترمب، كما يشرحها مؤرخ إسرائيلي متبحّر، فهو «أن هاريس تحب إسرائيل لذاتها، أما ترمب فيتعامل معها من باب صداقته الحميمة مع نتنياهو. لذا فإن الأولى لربما كانت أكثر التزاماً وأبقى».

الصورة داكنة مع رئيس أميركي، يمكنه أن يفعل أي شيء. إلا أن عزاءنا هو أننا في زمن يمكن أن يحدث فيه كل شيء، من حيث لم يحتسب أحد. وتبقى المفاجآت السّارة ممكنة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف