أيها اللبنانيون فاضت أجيالكم حروبا … أي لبنان غدا؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
قد يقترب من المستحيل العبثي، في انفعالات اللبنانيين، أن تحفزهم الآن على أي مقاربات باردة لمستقبل بلدهم الذي يتجرع قدر الحروب والأزمات، في فورة حرب إسرائيلية على لبنان لا مثيل لهمجيتها، وفي ذروة انكشاف متكرر لـ"حروب الآخرين على أرض لبنان" التي عاينها ورآها واستشرفها في السبعينيات من القرن الماضي كبير من لبنان هو غسان تويني، وما زلنا نشهد على رجاحة رؤاه حتى اليوم، مع كل الأزمات المتراكمة في داخل مأزوم يتعمق انقسامه وينحو أكثر فأكثر في اتجاه تمزق وطني عارم شديد الخطورة.
مع ذلك، وبقدر ما تضغط قسوة هذا القدر الظالم، المصنوع بعضه من ظلم الجغرافيا الإستراتيجية لبلد صغير في إقليم دائم الاضطرابات، والبعض الآخر من سقوط تاريخي في العجز عن إقامة دولة محصنة تحمي لبنان وتمنع تفريغه المنهجي من أجياله تباعا، وفيما شعار الناس والإعلام التقليدي والحديث والمنتديات السياسية داخلا وخارجا تتركز على السؤال المعلوم المجهول "ماذا عن اليوم التالي بعد الحرب؟"، قررت "النهار" أن تغوص إلى الأعمق والأبعد في قلب هذه الكارثة، وهو ماذا عن لبنان غداً كمصير شامل مستقبلي؟ ألم يحن الوقت بعد لشجاعة المقاربة وطرح النقاش العام واستخلاص دروس وتجارب كارثية منذ انفجر لبنان في القرن الماضي ولا يزال يتفجر تباعا منذ حلول القرن الحالي؟
والواقع أن مقاربة "أي لبنان غدا" شكلت لمعظم القوى السياسية والحزبية والطائفية والمجتمعية اللبنانية ما يشبه الكابوس أو المحرمات في الحِقَب السابقة، وتحديدا بعد الطائف، لأن كل إثارة للمعضلة كانت ولا تزال تقترن باتهامات العبث بالصيغة التعايشية أو النظام السياسي الدستوري القائم على توازنات طائفية هشة، لكنها ممنوعة من المس بها.
ينفجر بذلك أكبر واقع تكاذب وطني عارم ليس أدلّ عليه من مرور عامين على ضرب النظام ونحره عبر تعطيل الموقع الأول في الدولة، رئاسة الجمهورية، وتسخير التعطيل لهيمنة فئة على كل الفئات والطوائف، واستدراج الحروب تكرارا بقرار أحادي مذهبي مرتبط بخارج إقليمي. كانت في تاريخ هذه المعضلة تجارب مماثلة لجهة عبث الطوائف والجهات المحتمية بالتركيبة الطائفية العليلة اللبنانية، بحيث تناوب المسيحيون والسنّة والدروز والشيعة على التجرؤ في تضخيم أدوار الطائفة والزج بها وسط تعقيدات مصالح الدول الإقليمية أو الغربية والشرقية.
منذ انفجار لبنان في السبعينيات، انكشفت هشاشة الصيغة السحرية التعايشية التي غالبا ما كانت تهتز وتتداعى أمام نزعات جامحة أو حسابات خاطئة لمكونات لبنان الطائفي، بمعزل عن التحسب لإمكان تفجير لبنان برمته ورميه تحت سنابك وحوش المصالح الخارجية. كانت سلسلة الحروب الصغيرة أو الكبيرة منذ انفجار 1975 إلى الحرب الحالية، سلسلة شهادات دراماتيكية مفجعة على ما لا يعترف به معظم القوى السياسية والطائفية الحاكمة سعيدا على مآسي اللبنانيين وكوارثهم، وهو الفشل التاريخيّ الذي لا يحتاج إلى إثبات لتلك الصيغة التنظيمية للاجتماع السياسي والطوائفي والمجتمعي اللبناني. لم يعد جائزا ولا مقبولا في المنحى الواقعي أو الوطني أو الدستوري وحتى الديني والإنساني - الأخلاقي المضي قدما بلا هوادة في تجاهل الضعف القاتل في مسار هذا اللبنان الذي تبدلت هويته الحضارية رأسا على عقب، وعن بكرته تماما، وبات بلد أشباح حضارية بعدما فقد كل تميزه وخصائصه الحضارية الفذة وصار بلد تصدير لأجياله الشابة إلى سائر أنحاء الأرض. إلى كل ذلك، يُحظر مقاربة أحد الأسباب الجوهرية التي تمنع قيام دولة حماية أجيال لبنان الشابة من التهجير المنهجي.
لا صيغة 1943 كانت سداً أمام حروب الآخرين واحتلالاتهم ووصاياتهم، ولا صيغة الطائف صمدت أكثر من عقد أمام عصف وصاية جديدة داخلية - إقليمية واتساع الانقسامات، ولا كل المزاعم الكاذبة بـ"سيّجنا لبنان" أو حميناه "بالمقاومة" حالت دون تدحرج الكوراث إلى مآلنا الحالي. والأسوأ والأخطر أن خلفية البلد الواقف راهنا عند كابوس همجية حرب تشن عليه وخوف متعاظم من فتنة داخلية تتعبأ لها المناطق المكدسة بين مقيمين ونازحين، هذه الخلفية اعتملت وتعتمل بمشاريع واتجاهات تقسيمية أو اتحادية أو فيديرالية أو وحدوية أحادية على نحو يعكس اعتمال "لبنانات" استولدتها الكوارث والتجارب وليس من منفذ نحو دولة حديثة مستدامة توقف فائض تهجير الأجيال.
سيجد اللبنانيون أنفسهم، طوعاً أو قسراً، أمام خيار وحيد لم يعد منه مفر، هو تطوير الدولة المدنية إلى الأقصى وإلى الذروة، أي العلمنة الشاملة وليس أكذوبة إلغاء الطائفية السياسية التي تعمق التجاذب والفساد والتبعية. العلمنة الشاملة بلا قفازات، الموازية لجراحة أخيرة منقذة، وإلا قضى لبنان بلا عودة وبلا رجوع. جربوا فينا كل التجارب ولعبوا بأعمارنا وهجّروا أبناءنا إلى أقاصي الأرض وبلدان الهجرة، وأقاموا ممالك الفساد والتبعية والارتباطات الخارجية التآمرية، وتمتعوا بثروات المحاصصة الحرام وأفقروا اللبنانيين وأقاموا أسوأ نموذج لفشل دولة في العالم. فهل كثير على اللبنانيين أن تأخذوهم إلى رحاب غد محدث حقيقي بعلمنة شاملة وساحقة في النظام والدولة والمجتمع، يسقط معه إدمان الفشل الطائفي الذي تحول مبعث انتحار مستدام للبنان وسط هذه البقعة الملعونة من العالم؟