النووي ولبنان بين ترامب وإيران
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
يجب ألاّ نقلّل من أهمية اللقاء السرّي الذي أتى بتكليف من كلٍ من الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب ومرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية آية الله علي خامنئي، بين الملياردير المقرّب من ترامب إيلون ماسك، والسفير لدى الأمم المتحدة المقرّب من المرشد أمير سعيد ايرواني. هذان الرجلان بحثا لمدة ساعة في كيفية نزع فتيل التوتر بين واشنطن وطهران في اليوم التالي لزيارة مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي إلى طهران. بعد لقاء كبار المسؤولين، أعلنت إيران أنها جاهزة لاستئناف المفاوضات حول اتفاقية نووية، هي عملياً بديلة عن تلك الاتفاقية التي مزّقها دونالد ترامب في رئاسته الأولى، وكان وقّعها الرئيس الأسبق باراك أوباما قبله بتنازلات كبرى، شملت الخضوع لإصرار طهران على استبعاد سلوكها الإقليمي وعلاقاتها مع الوكلاء والأذرع عن الحديث النووي، وإلاّ لا اتفاقية نووية. لكن هذه الجولة من الأحاديث النووية لن تكون بمعزل عن الوكلاء والسلوك الإقليمي، بل سيكون الملف النووي جزءاً من أطروحة أشمل في ذهن الرئيس الأميركي المنتخب. لم يكن اللقاء السرّي بين السفير الإيراني والإدارة الأميركية الأول من نوعه، إذ أوفدت إدارة الرئيس الحالي جو بايدن مندوباً عنها للقاءات سريّة مع ايرواني باعتباره سفيراً فوق العادة، نظراً لعلاقته المميزة مع خامنئي، كما مع الرئيس الإيراني الإصلاحي مسعود بزشكيان. ثم أن لقاءً سريّاً حصل بين بزشكيان ووزير الخارجية أنتوني بلينكن أثناء انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر)، حضره وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي. أثناء الاجتماعات مع غروسي في طهران، أكّد بزشكيان له أنه يريد إزالة "الشكوك والغموض" بشأن برنامج إيران النووي. وجاء ذلك في أعقاب الانتخابات الرئاسية الأميركية التي فاز بها ترامب فوزاً ساحقاً. ترامب كان في ولايته الأولى طبّق ممارسة سياسة "أقصى درجات الضغط" على إيران، وأكّد خلال حملته الانتخابية أنه ينوي استئنافها عندما يتولى منصبه. عراقجي، من جهته، كتب على منصة "أكس" أن "الكرة الآن في ملعب الاتحاد الأوروبي/ الترويكا الأوروبية، ونحن على استعداد للتفاوض (...)"، في إشارة إلى الترويكا المكونة من فرنسا وألمانيا وبريطانيا. لكن واشنطن أكّدت أنها تنتظر تغييراً في "سلوك" طهران، لا مجرد القول إنها تريد "إزالة الغموض والشكوك" بشأن برنامجها النووي. الغموض والشكوك رافقا المواقف الإسرائيلية نحو البرنامج النووي الإيراني، وسط تنبؤات بقيام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بخطوة استباقية أثناء الفترة الانتقالية بين فوز ترامب بالرئاسة وتسلمه مفاتيح البيت الأبيض في 20 كانون الثاني (يناير). أصحاب هذه النظرية افترضوا أن لدى نتنياهو تلك الفرصة النادرة لفرض أمرٍ واقع على الولايات المتحدة بتوجيه إسرائيل ضربة ضدّ المنشآت النووية الإيرانية، باعتبارها الفرصة المؤاتية الوحيدة لتغيير الأمر الواقع ونسف البرنامج النووي الإيراني. لكن دونالد ترامب، شأنه شأن جو بايدن، لا يريد توريط الولايات المتحدة في حرب على إيران تجرّها إليها إسرائيل، علماً أن إسرائيل لا تستطيع أن تقوم بمثل تلك العملية بمفردها. بايدن حذّر إسرائيل ضدّها علناً. أما ترامب فإنه ارتأى، حسبما يبدو واضحاً، أن يبلّغ إيران أنها هي المسؤولة عن تجنّب ذلك الخيار، وأن عليها أن تتخذ خطوات جديّة تمكنه من إبلاغ إسرائيل أنه لا يوافقها الرأي في شأن الخطوات الاستباقية. القاسم المشترك الآخر بين بايدن وترامب هو أن على إيران أن تفهم أن وعود أوباما باستبعاد سلوكها الإقليمي وعدم محاسبتها على أفعال أذرعها هي وعود ميتة، وأن أمام طهران أن تختار بين استمرار عقيدة الأذرع وبين إصلاح تلك العقيدة جذرياً. إدارة بايدن طلّقت نفسها من وعود أوباما عندما باركت ومكّنت إسرائيل من قطع تلك الأذرع، بتدميرها قدرات حركة "حماس" في غزة، و"حزب الله" في لبنان. تناولت إدارة بايدن مسألة "الحشد الشعبي" في العراق بالديبلوماسية الدقيقة مع أركان الحكومة والمراجع العراقية الأساسية. وأتى موقف آية الله علي السيستاني الأخير حول ضرورة الإصلاح الشامل وحصر السلاح بيد الدولة مؤشراً مهماً، علماً أن فتوى "الجهاد الكفائي" التي أطلقها عام 2014 كانت الأساس الذي مشى عليه قادة ميليشيات "الحشد الشعبي" بذريعة مواجهة "داعش". فالمواقف الصادرة عن المرجع الشيعي الكبير، السيد السيستاني، تطرقت إلى ضرورة أن يكون السلاح بيد الدولة العراقية، محذّرة من الاعتداء على سلطة الدولة، لكنها أيضاً كانت تخاطب ضمناً الميليشيات الشيعية كافة في كل مكان، وأبرزها "حزب الله" في لبنان الذي صادر سيادة الدولة ورفض حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية. "حزب الله" يعتبر أن مرجعيته في إيران وليس في العراق أو لبنان، وهو أوضح الولاء والإذعان لآية الله علي خامنئي حصراً. لذلك، إن مصير لبنان ما زال في يد إيران وقادتها. وهذا بات واضحاً في تصوّر السياسة الأميركية لدور إيران في لبنان، كما لتحوّل لبنان إلى ساحة حرب مشتعلة بين إيران وإسرائيل، وليس بين إسرائيل ولبنان. الحديث الذي دار هذا الأسبوع بين الرئيس بايدن والرئيس المنتخب ترامب أثناء لقائهما في البيت الأبيض، أدّى إلى توافقهما على العمل نحو وقف النار في غزة، وإيقاف الحرب في لبنان. بايدن يريد أن ينهي ولايته بتحقيق إنجاز في الملفين، مع الاقتناع بأنهما باتا منفصلين وأن لا ربط بين وقف النار في غزة وإيقاف الحرب في لبنان. من هذا المنطلق، أتى التركيز على دور إيران في لبنان، لأن دور إيران في غزة كان وما زال ثانوياً مقارنة مع اعتماد طهران لـ"حزب الله" وكيلاً أساسياً لها داخل لبنان وعلى مستوى الدول العربية. فـ"حزب الله" هو مفتاح تفكيك عقيدة النظام في طهران، أما باقتناع إيران أن الوقت حان للتخلي عن استخدام ميليشيات تابعة لها لبسط نفوذها الإقليمي ولحروبها بالوكالة مع إسرائيل، كما لتقويض سيادة الدول العربية، أو رغماً عنها بتفويض إسرائيل للقيام بالمهمة العسكرية لاستكمال تدمير "حزب الله" وتفكيك العقيدة. دونالد ترامب وافق جو بايدن على استمرار تمكين إسرائيل، بالأسلحة المتفوقة وبالمال وبالتحالف الاستراتيجي المتين، لتحقيق أهداف تدمير "حماس" كلياً ونسف قدرات "حزب الله" العسكرية. وافقا الرأي على إعطاء إيران فرصة لترويض "حزب الله" ليتحوّل إلى حزب سياسي يسلّم أسلحته إلى الدولة ويكف عن مصادرة سيادة الدولة اللبنانية. إنما الخطوة الأولى هي، في سياسة الرئيسين، ضمان انسحاب "حزب الله" إلى شمال نهر الليطاني لتكون المنطقة بين النهر والحدود مع إسرائيل خالية تماماً من سلاح "حزب الله". المشكلة في الاكتفاء بهذا القدر هي أن إسرائيل تريد ضمانات مكبّلة بعدم قدرة "حزب الله" على العودة إلى المنطقة العازلة لاستئناف العمليات ضدّ سكان شمال إسرائيل ومنعهم من العودة الآمنة. لذلك يأتي الحديث عن القرار 1559 الذي دعا إلى بسط الدولة اللبنانية سلطتها على كامل أراضيها وإلى نزع سلاح جميع الميليشيات، "حزب الله" والفصائل الفلسطينية، ليكون السلاح حصراً في يد الدولة. القرار 1559 هو جزء من القرار 1701 الذي يشكّل خريطة الطريق إلى إيقاف الحرب بين إسرائيل و"حزب الله". آليات تطبيق هذا القرار واضحة. أما القرار السياسي فهو عائد إلى إيران وليس إلى "حزب الله". إدارة بايدن تلكأت في الاعتراف بأن لا مجال لوقف الحرب في لبنان سوى عبر الضغط على إيران، كما أخطأت بربط حرب لبنان بحرب غزة، وافترضت أن وقف النار في غزة ضروري لوقف الحرب في لبنان. دونالد ترامب أدرك فوراً أن المفتاح في إيران وأن اختبار صدق طهران في الملف النووي يمرّ بملف لبنان. المعادلة بسيطة في ذهن دونالد ترامب وأساسها المساومة للتوصل إلى صفقة رابحة. إيفاده إيلون ماسك للقاءٍ سرّي مع السفير الإيراني المقرّب جداً من أعلى الهرم في طهران يبيّن أن ترامب يريد إغراء إيران بالصفقة. فلدى ماسك ما يمكن أن يقدمه لإيران، إضافة إلى ما في وسع ترامب أن يفعله ليقلب المقاييس في العلاقة المستقبلية بين الولايات المتحدة وإيران. أمام طهران إذاً، إما الاستفادة من الصفقة المتاحة والمغرية، أو مواجهة عقوبات تضمن لها الإفلاس.