صراع السلطة والنخبة السياسية في البلاد العربية!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
آخر أخبار الصراع على السلطة في ليبيا أن فريقي الصراع ليس بينهما أدنى توافق على تسوية وحل لتعدد السلطات، وكل طرف منهم مصرّ على استمرار الصراع، بأشكاله المختلفة، ساعياً ليكون حسم الصراع لصالحه، رغم أن الحال متواصلة دون نتيجة منذ سنوات طويلة، نزفت فيها ليبيا كثيراً من طاقتها البشرية والمادية، رافقها دمار وتدخلات خارجية، وكلها سوف تتنامى وتستمر، ما لم يُحسَم الصراع على السلطة، ويفتح تحقيقه أبواباً جديدة لحياة الليبيين ومستقبل أجيالهم وبلدهم.
وحالة الصراع على السلطة في السودان شقيق ليبيا في الجنوب الشرقي تقارب الحالة الليبية، لكنها أكثر وحشية وعنفاً لأسباب داخلية وخارجية معقدة، ونتائجها أشد قسوة على السودان وعلى جواره الذي يعاني تدفق ملايين اللاجئين، وقد استحالت حياتهم إلى جحيم في بلدهم نتيجة الحرب التي تقتل الناس عشوائياً، وتدمر إمكانياتهم وممتلكاتهم، ويرتكب أطرافها بخلاف طبيعة الشعب السوداني أشد الجرائم هولاً ووحشية على طريق رغبة كل منهم في تحقيق نصر حاسم على خصمه.
مشهد صراع السلطة في ليبيا والسودان يشبه صراعات السلطة في بلدان عربية أخرى، بينها اليمن الذي يشهد صراعاً عنيفاً بين الحكومة وميليشيات الحوثيين، كما حال ميليشيات الحشد الشعبي في العراق، و«حزب الله» في لبنان، والميليشيات في سوريا التي تعيش صراع سلطة ثلاثيّ الأطراف من سلطات الأمر الواقع؛ أولها في شمال شرقي سوريا التي تسيطر عليها الإدارة الذاتية، والثانية منطقة السيطرة التركية في شمال غربي سوريا، والثالثة منطقة سيطرة النظام في خط وسط وغرب سوريا.
وللحق، فإن صراع السلطة الحالي في البلدان العربية حالة غير مسبوقة في حالات الصراع عبر التاريخ الحديث الذي تأسست أو حصلت فيه البلدان العربية على استقلالها، وكان من الطبيعي أن تشهد كل البلدان صراعاً على السلطة وداخلها، خصوصاً بعد ظاهرة الانقلابات العسكرية، التي بدأت أولى تجاربها في سوريا بقيادة العقيد حسني الزعيم عام 1949. وكرر كثير من المغامرين والطامحين العسكريين التجربة، وكان آخر التجارب ما حدث في سوريا عام 1970.
كانت صراعات السلطة إبان تلك المرحلة مختلفة عما يجري حالياً؛ ففي الأهداف، كانت الصراعات محكومة بأهداف المجتمعات عموماً، وذات صلة معلَنة مع المسائل السياسية الاقتصادية والاجتماعية التي تهم الفئات الشعبية الواسعة، وكانت الحركات الشعبية، بما فيها من أحزاب وجماعات مدنية وأهلية، أدوات صراع السلطة، يشبه ما يحصل في أنظمة الديمقراطية الغربية، وكانت مشاركة الجيش استثناء بدا في سوريا، سجل تجارب قليلة في عدد من البلدان، وغالباً ما كانت نتائج صراع السلطة محدودة النتائج على الأشخاص أو جماعات خاصة، من حيث انتهاك حقوق الإنسان وممارسة تعديات محدودة، كما أن نتائج الصراع في المجالين الاقتصادي والاجتماعي كانت محدودة الأثر.
وشهدت سوريا التي سادت فيها ظاهرة صراع السلطة أمثلة كثيرة، شاركت فيها أطراف مدنية وعسكرية، مما يجعلها مثالاً للوقوف عند بعض تجاربها، ومثالها العسكري الأول انقلاب حسني الزعيم الذي كان هدفه محاربة الفساد وحفظ كرامة الجيش بعد حرب فلسطين، وكان سقف قسوته اعتقال بعض خصومه لمدد قليلة، وهو الوحيد الذي قُتِل في عملية الانقلاب عليه بعد أشهر من وصوله للسلطة، والتجربة الثانية صاحبها العقيد أديب الشيشكلي الذي قاد انقلاباً أواخر عام 1949 تحت أهداف إصلاحية، ثم أصبح رئيساً لسوريا ما بين 1953 و1955. وبسبب إصلاحاته الطموحة وأخطائه، تحركت ضده معارضة واسعة، فقرر التنحي عن السلطة ومغادرة البلاد إلى منفاه البرازيلي، مجنباً البلاد صراعاً عنيفاً يدمرها ويقتل أبناءها، مما يعكس مستوى عاليا في المسؤولية الوطنية السياسية والأخلاقية عنده.
وثمة تجربة مدنية مهمة في صراع السلطة، تتصل بالرئيس شكري القوتلي أحد أبرز السوريين في القرن العشرين؛ حيث بدأ نشاطه الوطني تحت الاحتلال العثماني وعايش تجربة الدولة العربية بدمشق، والانتداب الفرنسي والاستقلال وصولاً إلى وحدة سوريا ومصر عام 1958؛ حيث تنازل طوعاً عن منصب الرئاسة لصالح رئاسة دولة الوحدة، التي تولاها جمال عبد الناصر، وهو عمل لا مثيل له في تاريخ السياسة العربية، ولم تلك ميزة الرئيس القوتلي الوحيدة في تعامله مع منصب الرئاسة؛ ففي فترة رئاسته الأخيرة بين 1956 و1958، كلف القوتلي الرئيس ناظم القدسي القيام بمهام رئاسة الجمهورية عدة مرات، وكله يعكس أريحية الرجل في التعامل مع منصب الرئاسة باعتباره مسؤولية إزاء الشعب والبلد، وليس منصباً شخصياً ومزايا ينبغي التمسك به تحت كل الظروف.
تستحق ظاهرة صراع السلطة المتصاعدة في البلدان، التي تكلف تلك البلدان فواتير إنسانية ومادية كبرى في عصر تقدم العالم المذهل، وتضع تلك البلدان ومواطنيها على قائمة الهامش العالمي، أن تتوقف النخبة العربية عندها، ولا سيما النخبة السياسية والثقافية للبحث فيها، وابتكار السبل الكفيلة بالحد منها على الأقل، لأن استمرار هذا الصراع سيؤدي إلى تدمير كيانات سياسية وجعل مواطنيها في عمق كوارث لا حدود لها.