جريدة الجرائد

هل شارف زمن التلفزيون على الانتهاء؟

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

عبدالرحمن الحبيب

في سبعينيات القرن الماضي، قال الفيلسوف الكندي هربرت مارشال ماكلوهان: « لقد نقل التلفزيون وحشية الحرب إلى غرف المعيشة المريحة، ولقد خسرت حرب فيتنام في غرف المعيشة في أمريكا، وليس في ساحات القتال في فيتنام». هذا الكلام قيل عندما كان للتلفزيون تأثيراً هائلاً على العقول وأهمية كبرى لدى الحكومات والقادة، حيث كان من أهم رموز السلطة وكان الاستيلاء على مقر التلفزيون (عادة الحكومي) على قائمة مهام مدبري الانقلابات والمحتلين.. وإذا كان للتلفزيون نفوذ هائل في صناعة الرأي العام للشعوب، فإنه أيضاً مصدر أساسي للحصول على المعلومات العامة، فضلاً عن كونه أحد أهم وسائل التسلية وإمضاء وقت الفراغ..

في الأسبوع الماضي (21 نوفمبر) جرى الاحتفال باليوم العالمي للتلفزيون الذي تم إقراره في الأمم المتحدة عام 1996، ورغم اعتراض بعض الدول في حينها لأن هناك بالفعل ثلاثة أيام للأمم المتحدة تتناول مواضيع مماثلة: اليوم العالمي لحرية الصحافة؛ واليوم العالمي للاتصالات ومجتمع المعلومات؛ واليوم العالمي لمعلومات التنمية، وإضافة يوم آخر فائض عن الحاجة.. لكن تقول الأمم المتحدة إن اليوم العالمي للتلفزيون ليس احتفاءً بأداة إعلامية بقدر ما هو احتفاء بالفلسفة التي تعبر عنها هذه الأداة.. إنما كانت ألمانيا على رأس المعترضين بحجة أن التلفزيون ليس سوى وسيلة واحدة من وسائل المعلومات ووسيلة إعلامية لا تستطيع نسبة كبيرة من سكان العالم الوصول إليها.. ويمكن لهذه النسبة الساحقة أن تنظر بسهولة إلى اليوم العالمي للتلفاز باعتباره يوماً للأثرياء.

الآن لم يعد للتلفزيون هذه النظرة ولا السطوة، فإضافة إلى تنافس الشاشات الرقمية وتقدمها عليه، فإن غالبية الجيل الجديد لا يكادون يشاهدونه، فمع دخول الشاشات الذكية، والتطبيقات المتنوعة، صار للناس مدى واسع من الخيارات وأوقات مفتوحة بلا جدول زمني أو تحفظات فكرية أو أخلاقية، بعيداً عن القيود المهنية والأخلاقية والتوقيت المحدد الذي تفرضه القنوات التلفزيونية، وأصبح للناس حرية انتقاء المحتوى الذي يتابعونه وفي الوقت الذي يختارونه.

إنما ظل للتلفزيون بقية من تأثير سلوكي هائل لدى الأجيال التي اعتادت عليه قبل الزمن الرقمي، فالالتزام بمواعيد الأخبار والبرامج والمسلسلات يضبط الجدول الزمني للفرد، بل إن البعض يذكر أنه يضبط كافة الإيقاع اليومي بعد الخروج من العمل حتى صار طقساً يومياً والتزاماً صارماً لدى البعض.

ومن الطريف ما ذكره المحقق الصحفي مجدي القسوس أنه عندما التقى بصديق شاب في أواخر العشرينات، ذكر له أنه يقضي ساعة في مثل هذا الوقت خارج المنزل، بعيداً عن أجواء العائلة لأن الثامنة مساءً بالنسبة لوالديه هي ساعة مسلسلهم المسائي المفضل، ولا يمكنهم التفريط في تلك اللحظات، وهو ما لا يستطيع تحمله، فهو يرى أن منصة واحدة قادرة على أن تختصر عشرات الساعات من الجلوس أمام التلفزيون في ساعتين.

إذن، ماذا عن مستقبل التلفزيون؟ توضح الدكتورة بيان القضاة، أستاذة الإعلام الرقمي أن التلفزيون كان الوسيلة الأساسية التي تساهم في نقل الأخبار، وترفيه الجمهور، وتعليم فئات المجتمع بشكل غير مباشر، مما جعل له تأثيراً كبيراً في نشر اللهجات المحلية، وتعزيز الهوية الوطنية، وزيادة الوعي بالقضايا الاجتماعية والسياسية، لكن مع ظهور عصر البث الرقمي وتنامي منصات الفيديو تغير تأثير التلفزيون بشكل جذري، لأن الخيارات المتعددة أصبحت متاحة الآن للجمهور، ما يسمح لهم بالوصول إلى محتوى متنوع من ثقافات ولغات مختلفة، «هذا التوسع أسهم في التأثير على الهوية الثقافية المحلية»، وفتح المجال لما وصفته بالعولمة الثقافية، لكن القضاة تؤكد أن التلفزيون لا يزال يحتفظ بمكانته المؤثرة، خاصة بين الأجيال الأكبر سناً وفي المناطق التي ما تزال فيها معدلات استخدام الإنترنت منخفضة.

التحديات التي يواجهها التلفزيون واضحة للعيان، لكن هل اقترب الوقت الذي يتم فيه الاستغناء عنه؟ الاستطلاعات تشير إلى تراجع تدريجي متواصل في عدد المشاهدين للتلفزيون لصالح المحتوى الرقمي الذي تقدمه منصات مثل يوتيوب ونتفليكس ووسائل التواصل الاجتماعي. هناك محاولات لدفع التلفزيون لمواجهة هذه التحديات مثل التخصيص الكبير للمحتوى، والوصول إلى جمهور عالمي، فضلاً عن استخدام التكنولوجيا مثل الواقع الافتراضي والذكاء الاصطناعي لتحسين تجربة المشاهدة (مجدي القسوس)؛ فهذه التحولات تمثل تحولًا نوعياً قد يكون دافعاً رئيسياً لتلفزيون المستقبل كي يواكب احتياجات العصر الرقمي ويوازي تطور وسائل الإعلام الحديثة بدلًا من أن يتراجع دوره.

في كل الأحوال، التلفزيون هو وسيلة إعلامية قد تتبدل أو تتطور أو تندثر إنما الوسائل تبقى، أو كما تقول الكاتبة ومضيفة بودكاست إيمي جو مارتن عن التلفزيون: «إنه حوار وليس مونولوجًا، وبعض الناس لا يدركون ذلك، أما وسائل التواصل الاجتماعي فتشبه الهاتف أكثر من التلفزيون.» لكن ثمة من يرى فيه مشاركة تقول ماري بيري «الحياة كلها تدور حول المشاركة، إذا كنا جيدين في شيء ما، فننقله إلى الآخرين. هذه هي المتعة التي أحصل عليها من التدريس، سواء كان ذلك من خلال التلفاز أو الكتب، فينبغي علينا جميعًا أن نشارك.» الأن ماري بيري تبلغ من العمر تسعين عاماً وهي كاتبة، وطاهية، وخبازة ومقدمة برامج تلفزيونية، ومعلمة... إنها خيارات المشاركة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف