حكماء «ما يجبُ»
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
عدت إلى المعاجم لأرى معنى فعل يجب ووجب، فكثير من الناس يتداولون هذه الكلمة-الفعل. وبحثت في القرآن الكريم، فلم أجد ذكراً لفعل يجب. كما لم يسعفني الإنترنت بوجود هذه الكلمة عند شعراء الجاهلية. ولكثرة معانيها في المعاجم، آثرت أن أضرب صفحاً عن البحث فيها. فهَمّي ينصب على ما تواضع عليه الناس من معنى يجب.
واستطراداً، أقول إن هناك علاقة بين هذا الفعل ومصطلح الواجب. المهم أنه كما يقول النحاة فعل مضارع، حين يطلب منك شخص ما أن تلتزم بأمر من الأمور التي يراها ضرورية، فإنه يستخدم جملة (يجب عليك أن تفعل كذا ولا تفعل كذا).. فيجب بهذا المعنى تفيد الأمر.. والأمر هنا يصدر عن شخص وأسبابه مختلفة، فقد يكون الأمر هذا نصيحة، وقد يكون تذمراً وعدم رضى، وقد يكون احتجاجاً، وهكذا.
ليست هناك مشكلة تُذكر في هذا الحقل من (ما يجب)، لأنها محصورة في حقل الأفراد.. لكن المشكلة تظهر في القضايا الكبيرة من الوعي والتاريخ والمجتمع والبنى، فحين يصدر الأمر (يجب) أو (ما يجب)، ممن يلبسون ثوب الحكمة في مسائل غير مرتبطة بقدرة الإرادة على تحويل (ما يجب) إلى واقع، فإن الأمر لا يعدو سوى رغبات لا أساس واقعياً لتحقيقها. تأمّل معي قول من يريد أن يغير الوعي بقرار عبر قوله: (ما يجب أن يكون عليه الوعي الاجتماعي هو كذا وكذا).
لكن تَغَيّر الوعي الاجتماعي، وبخاصة الوعي القيمي والوعي الثقافي مرتبط بتغيرات تاريخية جديدة طويلة.. تطورات في الحياة المادية والحياة الروحية والذهنية المرتبطة بالوعي بطيئة التغير جداً.. فإذا كان بناء جسر على نهر يحتاج عاماً أو عامين، فإن تغيير ذهنية من يمشي على هذا الجسر يحتاج إلى عقود، وإلى أجيال جديدة، تعيش التغيرات في شتى مجالات الحياة. لا شك أن هناك علاقة بين فعل الإرادة الواعية والتغيرات الموضوعية، لكن الإرادة لا تخلق الواقع على هواها، بل تخلقه في شروط كثيرة.. فعبر التطورات الموضوعية، تنشأ الإمكانات الجديدة التي تحتاج إلى إرادة، فالإرادة هنا هي القابلة القانونية التي تساعد المجتمع على ولادة الجديد الممكن.
وإذا حملت التطورات الموضوعية بإمكانات جديدة، وظهرت إرادة معادية لولادتها وخانقة لحياة الجديد، وقعنا في الركود التاريخي الذي لا يُحمد عقباه.. وهذا يعني أن حكماء (ما يجب) أن يكون، لا يمكنهم أن يكونوا فاعلين دون معرفة العلاقة بين الممكن والواقع، بين الإرادة والواقع المعيش.
فنحن نسمع بين الحين والآخر كلاماً يفيد بأن مجتمعاتنا يجب أن تكون على غرار هذه المجتمعات، أو تلك في آسيا وأوروبا. والحق أن مجتمعاتنا على مستوى البنية التحتية ومنجزات التقدم العلمي والتقني، لا تختلف كثيراً عن غيرها من الدول، أما في درجة حجم الصناعات وتطورها، فهناك اختلاف.
لكن كيف نفسر ما جرى ويجري في بعض بلداننا من صراعات، تصل حد الصراع المسلح؟ وصراع يستخدم أعلى وسائل التقنية التدميرية.. إنه الاختلاف في البنى التاريخية، في العلاقات الهوياتية، في أشكال الوعي المرتبط بالبنى، وهكذا..
نخلص من قولنا السابق، إلى أن النزعة الإرادوية التي لا تأخذ بعين الاعتبار الواقع الموضوعي، وبناه المتنوعة، وتطرح البدائل على هواها، دون البحث عن أجنة القائمة في رحم الواقع، أو تلك التي تعيق تحقيق البدائل الممكنة وقتل الأجنة وهي في رحم التاريخ، لهي عائق خطير في مسار التطور الطبيعي لمجتمعاتنا.. فالأوتوبيا نوع من الوعي السعيد بتصور مستقبل جميل خالٍ من كل صنوف الشر، لكن الأوتوبيا وعي متخيل لما يجب أن يكون، ولا يعكس الواقع في ما ينطوي عليه من مستقبل.