جريدة الجرائد

كيف تتعامل مع عدم اليقين؟

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

عبدالرحمن الحبيب

ما هو أفضل نظام غذائي؟ ما هي توقعات تغير المناخ؟ ما مدى احتمال الآثار الجانبية لدواء معين؟ ما مقدار الحظ في المباريات الرياضية؟ عندما تصنف السلطات حدثًا معينًا على أنه «مرجح للغاية»، ما مدى احتمالية ذلك فعلاً؟ أسئلة عديدة في حياتنا اليومية تكمن الإجابة عليها في حالة من عدم اليقين أو توقع شيء مشكوك في حدوثه أو ربما مجهول تماما.. فما هي طريقة التفكير المناسبة لمقاربة الإجابة على مثل تلك الأسئلة؟

يقترح عالم النفس (الحائز على جائزة نوبل) دانييل كانيمان أننا نحن البشر كائنات ثنائية النمط قادرة فقط على نمطين من التفكير: الأول (الذي أطلق عليه «النظام 1») سريع وغريزي وعاطفي؛ والثاني («النظام 2») أبطأ وأكثر تدبراً وأكثر منطقية. عند التعامل مع حالة عدم اليقين أو توقع شيء مشكوك فيه أو مجهول فإن نظام 1، كما يزعم الخبير الإحصائي ذو الشهر العالمية سبيجلهالتر: «يمثل نظاماً سيئاً؛ إذ يميل هذا النمط الفكري إلى الإفراط في الثقة، ويهمل المعلومات الخلفية المهمة، ويتجاهل كمية ونوعية الأدلة، ويتأثر بشكل غير ملائم بالطريقة التي يتم بها طرح القضية، ويولي اهتماماً مفرطاً للأحداث النادرة ولكن الدرامية، ويقمع الشك». وهذا على ما يبدو ما ينتشر حالياً في وسائل التواصل الاجتماعي حالياً..

تخلق وسائل الإعلام الجماهيرية باستمرار إنذارًا لا داعي له بشأن المخاطر الصغيرة (السفر بالطائرة) بينما تتجاهل المخاطر الحقيقية أو الأكثر أهمية (القيادة إلى العمل). يخدع الناس بالدعاية المناهضة للتطعيم ويخيفهم المصادفات البحتة. يكرر الساسة بغطرسة المجازفات القديمة حول «الأكاذيب والأكاذيب الملعونة والإحصاءات..»، لكن سبيجلهالتر يستدرك بأن النمط الأول كان يخدمنا بشكل جيد عندما كنا صيادين وجامعي ثمار، أما النمط الثاني، الذي ينطوي على تفكير بطيء ومجهد وغير متكرر ومنطقي وحسابي وواعٍ، فقد جاء في وقت لاحق، مع تزايد تعقيد المجتمعات وتحول عدم اليقين إلى جزء لا يتجزأ من الحالة الإنسانية. ولمحاولة فك شفرة العديد من القرارات التي نواجهها بمعلومات غير كاملة، والتعامل بطريقة أفضل مع ما لا نعرفه لاتخاذ خيارات أكثر ذكاءً في عالم مليء بالمتغيرات المحيرة.

من هنا، أصدر الخبير الإحصائي ديفيد سبيجلهالتر كتاباً بعنوان «فن عدم اليقين: كيفية التعامل مع الصدفة والجهل والمخاطرة والحظ»، وسبيجلهالتر من أعظم خبراء الإحصاء الأحياء، وهو أيضاً من أفضل خبراء التواصل في الأوساط الأكاديمية، فهو بروفيسور فهم الجمهور للمخاطر في كامبريدج. يقول سبيجلهالتر إن عدم اليقين «يتعلق بنا بالكامل، ولكن مثل الهواء الذي نتنفسه، يميل إلى البقاء دون فحص»، ولهذا السبب ألف كتابًا عن كيفية التعايش معه، ويتلخص هدفه في هذا الكتاب في طرح نوع من النظام الفكري على مجال موضوعي مليء بعدم الفهم وعدم الدقة والتناقض والتعتيم.

ما هي احتمالات أن يكون لدى شخصين تم اختيارهما عشوائيًا نفس عيد الميلاد؟ قد تكون الإجابة السريعة: لا أعلم! أو ربما نضع نسبة تقديرية من تصورتنا.. لكن لو تريثنا قليلاً وفكرنا بحسبة رياضية بسيطة جداً بعدد أيام السنة فستكون الإجابة أن النسبة هي 1/365. إن المبدأ التوجيهي لسبيجلهالتر هو أنه إذا أردنا أن نفكر بشكل مفيد في عدم اليقين، فلابد أن نستخدم الأرقام بدلاً من الحديث المرسل الفضفاض غير المقيد عن الفرص والحظ والاحتمال والمخاطر والمرجح، وما إلى ذلك. قد تكون لغة الأرقام معقدة لدى كثيرين فالرياضيات عموماً ليست بالأمر السريع تحليله في الدماغ مثل سهولة استيعاب القصص والعواطف، لكن الرياضيات المطلوبة هنا ليست شيئًا معقدًا، بل في كثير من الحالات، كل ما ينطوي عليه الأمر هو الحساب البسيط.

احتمالات الأمراض أو الإصابات أو الحوادث.. النجاح أو الفشل في مغامرة.. مدى توقع انضباط خطة العمل القادمة.. نتائج المنافسات الرياضية.. حالة الطقس للشهر القادم.. الأسعار للأسبوع التالي.. قد يكون من الصعب معرفة كيفية وزن كل هذه المجهولات بشكل صحيح، وأسلوب سبيجلهالتر عبر مبادئ الاحتمال الرياضي واضح واسترشادي يساعدنا في التفكير بشكل أكثر تحليلاً فيما يصادفنا بالحياة من عدم اليقين من النصائح الغذائية والصحية إلى ممارسة الرياضة مروراً بالسياسة والاقتصاد والبيئة عبر اتباع نهج رياضي في التعامل مع الظواهر التي قد نعزوها إلى القدر أو الحظ في فرز الأنماط الخفية من مجرد مصادفات، وتقييم السبب والنتيجة بشكل أفضل، والتنبؤ بما من المرجح أن يحدث في المستقبل.

هذا الكتاب يتضمن الطريقة التي توقظ العقول من الخدر الطبيعي الذي يجرفنا بتفكير عاطفي أو غريزي نحو نظام كانهيمان 1، ليسلط الضوء على التفكير الموضوعي بمنهج رياضي بسيط يوجهنا نحو نظام كانهيمان 2، مع الاحتفاظ بنسبية النتائج وعدم قطعيتها، والاعتراف بما لا نعرفه، أو ببساطة بما نجهله فعلاً ولا يمكننا معرفته، فلغة الأرقام لا تلغي الحيرة إنما تقلل إلى حد كبير من الأوهام وتمنحنا فرصة لاتخاذ قرارات أفضل.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف