من جمال عبد الناصر إلى حسن نصر الله: "التحرير" إذ ينهار مرةً أخرى (4-4)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
في نيسان (أبريل) 2021، خرج فلسطينيون في القدس الشرقية الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي احتجاجاً على قرار أصدرته محكمة القدس الإسرائيلية بإخلاء سبع عوائل فلسطينية في حي الشيخ جراح في القدس الشرقية لمنازل تسكنها على مدى عقود طويلة، بحجة أن هذه المنازل تعود ليهود يملكونها منذ العهد العثماني. قاد أمر الإخلاء هذا إلى احتجاجات فلسطينية في المدينة سرعان ما امتدت إلى بقية الأراضي المحتلة منذ 1967، وداخل الخط الأخضر في إسرائيل حيث احتج فلسطينيون من حاملي الجنسية الإسرائيلية، فضلاً عن إسرائيليين يهود من ذوي التوجّهات الليبرالية، تعاطفاً مع الفلسطينيين الذين صدرت بحقهم أوامر الإخلاء. تكشف أوامر الإخلاء القضائية هذه إحدى التعقيدات التاريخية في الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي والنهج التمييزي الذي تتبعه الحكومات الإسرائيلية المتتابعة، خصوصاً التي شكلتها قوى اليمين الديني والقومي. في حرب 1948، استطاع الجيش الأردني السيطرة على القدس الشرقية، وطرد المجاميع المسلحة الصهيونية (الهاغاناه، الأرغون، الليهي إلخ)، التي كانت انتظمت بسرعة بقرار من أول حكومة إسرائيلية، حكومة ديفيد بن غوريون، بعد أسبوعين من تشكيل هذه الأخيرة في 15 أيار (مايو)، فيما سمّي حينها رسمياً "جيش الدفاع الإسرائيلي". رافق هذه السيطرة، التي تكاد تكون النجاح العربي العسكري الوحيد في هذه الحرب، طردُ نحو 1500 يهودي من القدس، المدينة القديمة. بعد الهزيمة العربية في حرب 1967 وسيطرة إسرائيل على القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، بدأ هؤلاء اليهود الإسرائيليون رفع دعاوى أمام محاكم إسرائيلية لاسترجاع ممتلكاتهم التي سكنها فلسطينيون هجّرتهم إسرائيل في أثناء حرب 1948. أثار قرار المحكمة الإسرائيلية سؤالاً أخلاقياً ومنطقياً صحيحاً: إذا كان يحق ليهود هُجِّروا بالقوة استرجاعَ ممتلكاتهم، لماذا لا يحق لفلسطينيين هَجَّرتهم إسرائيل، بحدود 750 ألفاً في 1948، رفع دعاوى أمام المحاكم ذاتها لاسترجاع أملاكهم؟ كان الجواب الدقيق على هذا السؤال كاشفاً عن مدى وعمق التمييز الرسمي الإسرائيلي ضدّ الفلسطينيين: يمنع القانون الإسرائيلي منذ عام 1950 الفلسطينيين من تقديم شكاوى أمام المحاكم الإسرائيلية لاسترجاع أملاكهم التي أجبروا على تركها، ووضعتها السلطة الإسرائيلية تحت ما يُسمّى بـ”أملاك الغائبين" الذي عنى عملياً مصادرة هذه الأملاك حتى وإن كان أصحابها الفلسطينيون يعيشون في داخل مدينة مجاورة أو حتى المدينة نفسها (كما كان الحال مع ساكني "الشيخ جراح" الذين صدر أمر الإخلاء بحقهم، إذ هم هُجِّروا من مناطقهم وصودرت ممتلكاتهم في القدس الغربية واضطروا للسكن في القدس الشرقية). على وقع هذه الاحتجاجات الفلسطينية واتساعها المضطرد وتركيز الرأي العام الغربي عليها وتناول أسبابها، بالتعاطف الذي قادت إليه غربياً مع الفلسطينيين، بضمنها دعوات رسمية أميركية ضدّ القرار الإسرائيلي بإخلاء منازل "الشيخ جراح" من ساكنيها الفلسطينيين، على وقع هذا كله، بدأت "حماس" بإطلاق الصواريخ ضدّ إسرائيل، دعماً للاحتجاجات السلمية، لتردّ إسرائيل عسكرياً على "حماس" بالقصف بالطائرات. توقف الاحتجاج السلمي، وتحول التركيز إلى الأعمال العسكرية المضادة، لتحصد إسرائيل التعاطف الغربي المعهود معها بوصفها الطرف "المُعتدى عليه" من جانب "حماس"، و"المُضطرّة" إلى الردّ دفاعاً عن سكانها. تعتبر عسكرة النضال الفلسطيني - باعتبار العنف المسلح الوسيلة الفعّالة الوحيدة لإنجاز التحرير أو استرجاع الحقوق، تحت عنوان "الكفاح المسلح" على مدى عقود هيمنة منظمة التحرير الفلسطينية عليه، وعنوان "الجهاد" في ظل العقود التالية لهيمنة "حماس" والجهاد الإسلامي - نقطة إجماع شعبي وسياسي وأخلاقي عربي وفلسطيني، بل وحتى إسلامي. منذ بدايات هذا الإجماع في نهاية العشرينيات، في ظل الانتداب البريطاني فصعوداً، وترسخّه خياراً وحيداً عبر تولّي الدول العربية عبء التحرير بعد تبنّي الأمم المتحدة قرار التقسيم في نهاية 1947 وانتقال هذا العبء إلى المنظمات الفلسطينية بعد هزيمة 1967، تشكّلت وتعمّقت ثقافة خاصة تقوم على تمجيد هذا العنف ومنحه كل الأبعاد النبيلة الممكنة، بوصفه يمثل أفعالاً أخلاقية مشروعة يقوم بها فدائيون ومقاومون يُتغنى بإنسانيتهم وشجاعتهم. أصبحت هذه الثقافة عامة وبديهية والسبيل الوحيد المتيسر لفهم الصراع العربي - الإسرائيلي، إذ تشارك في تطبيع المجتمع عليها الفن والأدب والغناء والصحافة والدين والمناهج التعليمية وحتى القصص الشعبي، وصولاً إلى اختصار ضحاياه على الجانب الآخر بالكلمة العامة الباردة التي لا تصفهم كأشخاص بل تقدمهم ككينونات سياسية استعمارية فحسب: "مستوطنين" مستحقين للعنف الذي يحصل لهم على يد المقاومين والفدائيين حتى وإن كان هؤلاء "المستوطنون" أطفالاً أو شيوخاً أو نساءً أو مدنيين (في ظل رفض عربي عام لوجود مدنيين في إسرائيل بالأصل). في ظل رسوخ هذه الثقافة وبديهيتها وعموميتها، أصبح التفكير بغير العنف سبيلاً للمقاومة والاحتجاج مستحيلاً، شيئاً أقرب إلى الجبن والتخلي ويليق بمثالية زائفة "مستوردة" وروح انهزامية عاجزة. وكجزء أساس من صيرورة تطبيع هذه الثقافة وتعويد المجتمع عليها ألغي أيضاً الأثر المعنوي والفكري والاقتصادي، وليس الإنساني الذي يُركز عليه كثيراً، للعنف المضاد الإسرائيلي الذي كان غالباً ما يأتي مضاعفاً في شدته وقسوته رداً على عنف "المقاومة"، إذ يُصور تحمّل هذا الردّ، وبدون شكوى أو تبرّم، على أنه تضحية ضرورية وصبر نضالي يعتبر رفضهما فعلاً خيانياً ونقصاً أخلاقياً. هذه باختصار ثقافة "خطاب التحرير" التي انتعشت بقوة مفاجئة مباشرةً بعد شن "حماس" "طوفان الأقصى". لم يقد الإصرار على الحسم العسكري سواء عبر الحروب النظامية لجيوش الدول أو "الكفاح المسلح" الذي قادته المنظمات العلمانية والدينية الفلسطينية إلى تحقيق أي مكاسب ملموسة، بل في ظله ازدادت الخسائر وتفاقم أثرها (أعطى قرار التقسيم الفلسطينيين نحو 43 بالمئة من فلسطين التاريخية، لكن هذه النسبة تقلصت على إثر حرب 1948 لتصبح 23 بالمئة بعدها، ثم احتلت إسرائيل كل هذه المساحة في حرب 1967، فضلاً عن أراض جديدة تعود لبلدين عربيين، سوريا ومصر، وحتى هذه الـ 23 بالمئة المتبقية، تقطع أوصال الكثير منها مستوطنات إسرائيلية في الضفة الغربية والقدس). في الحقيقة، المكسب الحقيقي الوحيد والملموس الذي حققه النضال الفلسطيني على مدى العقود كان عبر الاحتجاج السلمي وليس الكفاح المسلح. كان هذا عبر انتفاضة الحجارة 1987-1993 التي بدأت عفوياً في منطقة جباليا في قطاع غزة في شهر كانون الأول (ديسمبر) في أثناء تشييع جماعي لأربعة فلسطينيين قتلوا في حادث دهس بسيارة يقودها سائق إسرائيلي لتنتشر سريعاً في أرجاء القطاع الأخرى وتصل إلى الضفة الغربية والقدس. فجّرت اللحظة القادحة هذه مشاعر الظلم الكثيرة المتراكمة فلسطينياً بينها تردّي الأوضاع الاقتصادية والحرمان من الحقوق السياسية وأحاسيس الامتهان المرتبطة بالعيش في ظل احتلال عسكري مفتوح. اشترك في الانتفاضة عدد هائل من الفلسطينيين بينهم أطفال كثيرون كانت مهمّتهم تتلخص برمي الحجارة ضدّ الجنود الإسرائيليين المحصنين بمركباتهم المدرعة وإشعال النيران في إطارات تمنع وصول الجنود إلى المحتجين. على مدى أكثر من ثلاث سنوات، من نهاية 1987 إلى بداية 1991 قبل أن يبدأ زخم هذه الاحتجاجات كثيراً إثر غزو عراق صدام حسين الكويت في خريف 1990، أصبحت "انتفاضة الحجارة" التعريف الأساسي لفلسطين ومعنى أن يكون المرء فلسطينياً… أثارت "انتفاضة الحجارة"، هذا الاحتجاج الباسل والمؤثر فعلاً، تعاطفاً عالمياً، وغربياً على الأخص، مع القضية الفلسطينية، وعرضت وجهاً إنسانياً مختلفاً عنها، حيث صبية يرمون الحجارة نحو قوات إسرائيلية مدججة قبل أن يضطروا إلى الفرار ركضاً من جنود يطاردونهم كانوا كثيراً ما يعمدون إلى تكسير أذرع المحتجين حين الظفر بهم. على مدى سنوات توالت هذه المشاهد التي لم تألفها شاشات التلفزيون الغربية وأحرَجَت إسرائيل وداعميها كثيراً وهي تُظهر فلسطينيين عاديين يكافحون بسلمية وشجاعة ضدّ احتلال قاس ومتجبر. كانت هذه مشاهدَ جديدة مختلفة تماماً عن المشاهد المعتادة للكفاح المسلح المرتبطة بخطف الطائرات وعمليات التفجير والتهديد بالمزيد من العنف التي دأبت على القيام بها المنظمات المسلحة الفلسطينية ما قاد إلى وضعها على قوائم الإرهاب الغربية والدولية (في 1994 قدمت "منظمة التحرير" تعهداً خطياً بالتخلي عن العنف لرفع اسمها من قوائم الإرهاب). في الحقيقة، ارتبط المنجز الحقيقي الوحيد والمحسوس الذي حققه الفلسطينيون لجهة استعادة بعض أرضهم بالاحتجاج السلمي، وليس بالعمل المسلح. فانتفاضة الحجارة هذه، مدعومةً بوعود غربية للدول العربية ببدء عملية سياسية تقود إلى تشكيل دولة فلسطينية في حال مشاركة هذه الدولة في التحالف الدولي المتشكل بقيادة أميركية لتحرير الكويت من القوات العراقية الغازية، هي التي مهّدت السبيل لعودة منظمة التحرير الفلسطينية المنفية في تونس بعد خروجها من بيروت في 1982 إلى فلسطين، الضفة الغربية في 1995. كان هذا في إطار اتفاقيات أوسلو وترتيباتها المعقّدة التي قادت إلى إنشاء السلطة الفلسطينية. بموجب هذه الاتفاقيات، توقفت منظمة التحرير عن "الكفاح المسلح"، وتبنت الطرق السلمية، السياسية والاحتجاجية، في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وهو الموقف الذي تصرّ عليه حتى الزعامة الحالية للمنظمة والسلطة الفلسطينية، ممثلةً بمحمود عباس. لكن "حماس" والجهاد الإسلامي أصرّتا على استمرار هذا الكفاح تحت مسميات الجهاد والمقاومة في سياقات مختلفة وصولاً إلى هجوم "طوفان الأقصى". إحدى ميزات الاحتجاج السلمي (وفي تجربة جنوب إفريقيا إبان الفصل العنصري دروس مهمة تستحق التعلم منها) هو أنه يُشرك الجميع تقريباً، المجتمع الفلسطيني والداعمون الخارجيون لطموحاته السياسية المشروعة من الناس العاديين، في أفعال الرفض والمقاومة والعصيان والمقاطعة، أي تحويل مواجهة الاحتلال والتمييز المنهجي الإسرائيليين إلى حركة عالمية لا يمكن مواجهتها بالسلاح أو التذرّع بالدفاع عن النفس للردّ عليها كما يحصل عندما تقوم "حماس" بفعل مسلح ضدّ إسرائيل تستثمره الأخيرة للردّ على نحو عسكري أيضاً يفوق كثيراً في الحجم والقوة والخسائر التي تلحق بالفلسطينيين، ما قامت به "حماس". يمنح هذا الاشتراك الجماعي في حركة الاحتجاج الواسعة هذه الأفراد العاديين حساً بفاعليتهم ودورهم وينشط فيهم قدرات التفكير والإبداع والتنظيم، بدلاً من الوضع الحالي حيث يتلقى الفلسطينيون العاديون الضربات العسكرية الإسرائيلية كضحايا مهمتهم الوحيدة هي تحمّل العناء ومطالبة المجتمع الدولي بالتدخّل رأفةً بهم! لعل الميزة الأهم في الاحتجاج السلمي الواسع والمنظم هو أنه ينقذ العمل الفلسطيني المقاوم من آفته الأشد: احتكار مجموعة صغيرة اتخاذ القرارات الكبرى والمصيرية، القرارات التي تفصل بين الحياة والموت وتكلف الفلسطينيين عناءً هائلاً من دون قدرة على الاعتراض أو التصحيح. شنُ هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) هو آخر الأمثلة الكبرى على مثل هذه القرارات التي لم تقرب الفلسطينيين من استرجاع حقوقهم، بل أضافت لهم المزيد من المقابر والآلام باسم تضحية مفتوحة لا تتحمل القلة التي اتخذت قرارات بذلِها المسؤوليةَ عن نتائجها…