في شرقنا المكلوم: القادر لا يرغب والراغب لا يقدر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
تبدو لك القضية الفلسطينية شديدة التعقيد في كافة احتمالاتها، مهما زادت سخونة الأحداث، أو فترت. تكاد تبدو وكأنها واحدة من قضايا الثقب الأسود، بلا حلول منظورة وفق قواعد العلوم السياسية، على الأقل في إطار المعطيات الحالية التي تحكم المشهد في الشرق الأوسط. إنها إشكالية بين طرف يقدر على السلام ولكنه لا يرغب فيه، وبين طرف يرغب في السلام ولكنه لا يقدر عليه. وبين الضفتين تسيل الكثير من الدماء في المنطقة، وتتصارع الغيوب، والسياسات.
وفق العلوم السياسية فإن فكرة التسوية بين متنازعين تنشأ من رغبة مشتركة في حل أزمة سياسية، أو منع صراع عسكري من الوقوع، أو التطور. وما يسهل من الأمر على الطرفين هو سريان نظرية توازن القوى، التي حكمت العالم لقرون، وضمنت سلاما وازدهارا عالميا مكن الدول من البناء والازدهار لفترات طويلة. تحت ظلال هذه النظرية فإن الطرفين يشعران بضرورة الوصول إلى التسوية المطلوبة، ذلك أن الاستمرار في الصراع مرهق بسبب هذا التوازن، وبدون هذه التسوية فإن الاستنزاف سيكون هو الطاغي على المشهد.
هذا هو الأمر المعروف عند الحديث عن طرفين متساويين في القوة. وبالطبع تختلف المعادلة عندما يكون فارق القوة بين الطرفين كبيراً وملحوظاً. بيد أنه وبرغم غياب توازن القوى في عدد من الحالات، فإن حصول الطرف الأضعف على صفقة عادلة ليس مستحيلاً لكنه يتطلب مزيجاً من الضغط الدولي، الصمود الداخلي، والتوازن بين مصالح الطرفين، والتزام الطرف الأضعف بمطالب واقعية يستطيع أن يبني عليها مستقبلاً ما، يمكن أن يصب في مصلحته حين تتغير الظروف.
وهكذا فإن القضية الفلسطينية تنتمي إلى حالة الصراع بين «الأقوى والأضعف». هناك فصيل مدعوم من قوى كبرى، تمتلك سلطة كبيرة في مجال السياسة والمال والإعلام، تمكنها من صناعة وتسويق سرديتها المختارة للقضية، مدعومة بتأييد سياسيين وقوى عظمى. وعلى الضفة الأخرى فصيل لا يملك سوى تعاطف الرأي العام العالمي، إن تبقى منه شيء بعد عملية السابع من أكتوبر. حرب بين الفيل والنملة تدور رحاها في الشرق الأوسط، وكل الحلول أمام حلها مضنية، أو مستحيلة.
هذا هو التحدي الأساسي للأزمة في الشرق الأوسط، فكيف يمكن صناعة اتفاقية سلام بين طرفين بينهما كل هذه الفروق؟
إن قراءة تاريخ النضال العالمي ضد طرف محتل تشير دائما إلى وجود حلفاء لديهم الرغبة في دعم هذا الفصيل المناضل عن أرضه، أو الضغط على العدو وحلفائه، وتأخير تقدمهم، أو احتوائه. كان الدعم الدولي جزءاً مهماً من نجاح حركات التحرير، حيث وفّر لها هذا الدعم الموارد والتأييد السياسي والدبلوماسي اللازم لتمكينها من مواجهة القوى الاستعمارية وتحقيق استقلالها.
فلقد حصلت الثورة الجزائرية على دعم من دول مثل الاتحاد السوفيتي والصين على الصعيد الدولي، مما ساهم في تحقيق الدعم الدولي للقضية الجزائرية. ودعم الاتحاد السوفيتي والصين حركة التحرير الفيتنامية عسكرياً ومادياً، وذلك خلال الحرب الفيتنامية. كما أن الهند حصلت على دعم معنوي وسياسي من عدة دول ومؤسسات دولية، خاصةً مع نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث كانت فكرة إنهاء الاستعمار منتشرة عالمياً، ودعمتها أيضاً الدول المحايدة في الأمم المتحدة. ودعمت الولايات المتحدة استقلال إندونيسيا للحد من عودة الاستعمار الأوروبي وتعزيز نفوذها في آسيا، بينما القضية الفلسطينية ليس لها داعمون من القوى الكبرى، وحلفاؤها يتناقصون يوما إثر آخر، إما بسبب الكلفة السياسية العالية، أو بسبب الفراغ الذي تعاني منه الساحة الفلسطينية والانقسام المروع.
الانقسام الفلسطيني، الذي كانت حماس سببه الرئيسي، أفقد الفلسطينيين القدرة على التأثير في العالم العربي، وحشد التحالفات لقضيتهم العادلة. حتى لو أراد العرب دعم الفلسطينيين فلا يوجد من يمكن دعمه حالياً. فبعد اختفاء ياسر عرفات من المشهد، وشخصيته الكاريزماتيكية، ودوره المحوري في تاريخ النضال الفلسطيني، لم يعد هنالك من يستطيع أن يملأ ذلك الفراغ الكبير.
والحل ؟ تحتاج السلطة الفلسطينية أن تعيد بناء نفسها وفق قواعد العصر، فاتحة المجال لجيل جديد كي يتولى المسؤولية، ويقنع العالم العربي، والمجتمع الدولي، بوجود فكر جديد يمكن الحوار معه، وهكذا يمكن للعالم العربي من الشعور بجدية التغيير والرغبة في التحرك بمسؤولية.
كما أن القيادة الفلسطينية عليها أن تستشعر حجمها في عالم اليوم، وظروف المنطقة، وهذا ما سيمكِّنها من التحرك بواقعية، لوضع سقف مطالبات يمكن تحقيقه، أو التفاوض بشأنه. العالم العربي الذي مزقته نيران الربيع العربي لم يعد قادرا على تقديم الكثير للفلسطينيين، وإذا لم يستغل الفلسطينيون القيادة السعودية، ونفوذها القوي على الساحة الدولية، فلن يحصلوا على شيء آخر.
يستطيع رجل الشرق الأوسط القوي الأمير محمد بن سلمان أن يحضر للفلسطينيين بالسلام مالم يتمكنوا من تحقيقه بالحروب على مدار أكثر من نصف قرن، شريطة فهمهم للمشهد الدولي، والتوازنات التي تحكمه، بدلاً من تضييع فرصة جديدة ككل الفرص التي ضاعت يوم كان ما كان.