الصراع على الانطباع
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
السوشيال ميديا آلة الدعاية السياسية الأساسية في الزمن المعاصر، بالمعنى المحايد للدعاية: الأداة التي يخوض بها أي كيان مواجهته السياسية والفكرية والاجتماعية.
إذا كنت مسؤولاً عن دور سياسي على «السوشيال ميديا»، فأول ما يواجهك هو التعقيد والتشعّب الذي يشبه حرب عصابات من كائنات لا مرئية. وأول ما يلزمك هو تبسيط هذا العالم إلى خريطة ذهنية واضحة يمكن العمل داخلها. ولنأخذ المواجهات الإعلامية مثالاً، وهي تقريباً أهم تحديات عالم «السوشيال ميديا».
في المواجهات الإعلامية أنتَ، ببساطة، في أحد حالَيْن: مهاجم أو مدافع. إن كنتَ مهاجماً؛ فهدفك الأول هو السبق إلى خلق الانطباع عن حدثٍ ما وتكريسه. جمهور السوشيال ميديا لن ينتظر حتى يشاهد الفيلم قبل أن ينتقده، أو يقرأ المقال قبل أن يشارك في الحفلة على كاتبه، أو يطالع التحليلات قبل أن يساهم برأيه في حدثٍ جارٍ. يريد أن يشارك الآن، في هذه اللحظة. هذه هي لحظة الصراع على مَن يكتب «تضبيطات المصنع» التي يراها المتصفح بمجرد أن يفتح الموضوع أو يقترب من الجدل. الصراع في السوشيال ميديا ليس شاغله عمق الحجج، بل القدرة على ترسيخ الانطباع الأول.
هذا لا يتحقق بالضخّ الكثيف وحده؛ واللايكات ليست ميزان نجاح. الجماعات الآيديولوجية تمتلك «مشاة» جاهزين لإعادة النشر، والمؤسسات الإعلامية تمتلك لجاناً تقوم بالدور نفسه. الفارق بين جهاز دعائي ناجح وآخر فاشل يتجلى في التشكيل.
قبل عصر السوشيال ميديا بقليل، كان الجهاز الإيراني المثال الأبرز على النجاح في الدعاية. لم يعتمد على خطّه الآيديولوجي وحده، بل على شبكة واسعة من الأصوات تتفق في الرسالة وتختلف في الأسلوب: شاعر لا علاقة له بالإسلام السياسي يروّج لطهران، موسيقي يجنّب فنه الصراع لكنه يستخدم حضوره الجماهيري لصالح سياستها، يساري مسيحي، عنصر من تيار سنّي، وثالث يؤمن بـ«حزب الله» وإن لم يؤمن بالله. هذا الطيف غير التقليدي منح الدعاية الإيرانية قدرة على التسلل إلى دوائر ودهاليز لم يكن خطّها المحوري قادراً على دخولها. الخط الصلب موجود، لكنه موجّه أساساً إلى الأتباع الملتزمين.
هذه التجربة نُقلت لاحقاً إلى «التحالف العثماني» بقيادة جماعة «الإخوان»، ونجحت معه في السنوات المحيطة بـ2011. فجأة أصبح الفنان والكاتب وصاحب الورشة يصلون إلى قناعات متقاربة مع الجماعة وينقلونها إلى قطاعات مختلفة. إذا كان كل هؤلاء مقتنعين، يقول جمهورهم، فكيف لا أقتنع أنا؟ نجحت التجربة لأنها اعتمدت على المبدأ نفسه: التنوع الذي يخدم الرسالة الواحدة.
في المقابل، تفشل أجهزة الدعاية حين تتحول إلى خط إنتاج يصنع رسائل كعلب صلصة متشابهة، ويطالب الجميع بالسمت ذاته، والرأي ذاته في كل صغيرة وكبيرة، ويحوّل كل خلاف إلى خصومة، ويخلط السياسة بالعقيدة والاختيارات الشخصية. هذا النوع من أجهزة الدعاية يبدأ قوياً ثم يسير في قُمع، يفقد المتعاطفين واحداً بعد آخر، وينجرّ إلى معارك جانبية تربح اليوم وتخسر الغد.
وعالم السوشيال ميديا ليس واحة مثالية ينتصر فيها التنوُّع وحده. هناك تكتيكات أخرى يستخدمها فريق الهجوم لتثبيت الانطباع الأول، مثل «الترولنغ» والاستهداف الشخصي، هدفها ضرب الأصوات المعارضة الأولى التي قد تعطل تشكّل الانطباع، وجعلها عبرة لمن يفكّر في مخالفتها.
أما في حال الدفاع، فقد سبقك خصمك إلى تحديد الإطار (Frame Setting). إن اكتفيت بالرد فستدور في فلكه: تكرر مفرداته، وترد على نقاطه، وتفاوض من السقف الذي وضعه. يصبح أقصى أمانيك التعادل، وأقرب النتائج الهزيمة، ناهيك من صورتك وتصنيفك.
لهذا لا بدّ، في هذه الحال، حتى تحت الضغط، من التفكير في «هجمة مرتدة»: اكتشاف ثغرات الخصم ونقاط ضعفه، وصياغة جملة تكتيكية تخرجك من إطاره وتعيد تعريف المواجهة. كل مواجهة بدأها خصمك بالهجوم واكتفيتَ أنت بصد الكرة اعتبر نفسك خسرتَها. العضلات وحدها لا تحسم الصراع على السوشيال ميديا، بل التفكير الاستراتيجي.