هل ما زالت الثقافة مهمة؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
هذا السؤال يعود بقوة في ظل حالة الغرام والنشوة التي يعيشها العالم تجاه الذكاء الاصطناعي، كما عاشها سابقاً مع ظهور الإنترنت، ومن قبل ذلك السكك الحديدية ومحركات البخار. ومع كل إعلان عن استراتيجية تكنولوجية جديدة، مثل الاستراتيجية الأميركية الأخيرة، يتجدد الإحساس بأن البشرية مقبلة على زمن تحكمه الآلات وتهب عليه رياح المستقبل من وادي السيليكون. لكن خلف هذا الضجيج، يظل السؤال الحقيقي: هل ما زال البشر بثقافاتهم وتحركاتهم وقصصهم الكبرى هم المحرك الأهم للسلوك الإنساني؟ أم أننا استبدلنا دراسة الإنسان بواسطة دراسة ما يصنعه الإنسان؟
رغم هيمنة شركات التكنولوجيا الكبرى، ورغم ضجيج إيلون ماسك و«إنفيديا» وغير ذلك، فإن القلق الكامن في السياسة الأميركية اليوم ليس خوفاً من الروبوتات ولا من الذكاء الخارق، بل من تغيّر ملامح الثقافة الأوروبية والأميركية تحت ضغط الهجرة وتدفق ثقافات جديدة. الغرب يرى أن أخطر ما يهدده ليس الخوارزميات، بل من البشر المقبلين إليه بأقدامهم وبخيالهم وبأحلامهم. فالرئيس الأميركي نفسه يتحدث عن «سيطرة أهل الصومال على مينيسوتا»، وفي أوروبا يتكرر الحديث عن الخوف من «أسلمة المجتمع». إن الخطر، في نظرهم، ليس تكنولوجياً ولكنه ثقافي واجتماعي، نابع من موجات البشر التي تتحرك من دون توقف.
هذا النوع من القلق شبه غائب في عالمنا العربي، لأن نخبنا - على مدى مائة عام - انشغلت بما أسميه «دراسات التأثير». نحن نسأل دائماً: ما تأثير العولمة علينا؟ ما تأثير الإنترنت؟ ما تأثير الذكاء الاصطناعي على ثقافتنا وهويتنا؟ وكأن قدرنا أن نتلقى التأثيرات لا أن نصنعها. بينما الحقيقة أن الغرب نفسه قلق من تأثير حركة البشر المقبلين من مناطقنا ومن الجنوب العالمي عموماً. قدومنا نحن، لا خوارزمياتهم، هو ما يربكهم ويغيّر مجتمعاتهم.
ولكي نفهم هذا العالم المتشابك، علينا أن نخرج من التفكير القائم على حدود الدول إلى تصور آخر يرى العالم كأنه سلسلة من فضاءات متداخلة. أول هذه الفضاءات حركة البشر، فبحسب تقرير 2024 تحرك عبر الحدود نحو 350 مليون إنسان، من دون احتساب السياحة أو التجارة. هذه الحركة الهائلة تعيد خلط الأعراق والإثنيات، وتشكل ملامح مجتمعات جديدة. الفضاء الثاني هو الإعلام العابر للحدود الذي يعيد تشكيل وعي الإنسان بالعالم وبنفسه، ويخلق طموحات قد لا تتوافق مع واقع الدول التي يعيش فيها. نحن العرب، على سبيل المثال، هاجر كثير منا بخياله قبل جسده، وشاهد في الإعلام حياة لا توفرها له أوطانه.
هناك أيضاً فضاء المال الذي انجذبت إليه نخب عربية غنية، من البورصات إلى العملات الرقمية. هذا الفضاء يوحي بأننا جزء من الاقتصاد العالمي، لكنه في كثير من الأحيان مقامرة قاسية، لأن البنى القادرة على استيعاب الصدمات غير مكتملة. أما فضاء التكنولوجيا، من الذكاء الاصطناعي إلى الإنترنت إلى الطائرات المسيّرة، فهو الذي اختصر الزمن إلى الحد الذي جعل العالم يبدو كأنه قرية صغيرة، رغم أنه لم يصبح كذلك فعلياً؛ كل ما حدث أن الزمن انضغط والمسافات تلاشت على الشاشة.
ثم يأتي فضاء الأفكار، هذه السوق التي تتنافس فيها السرديات الكبرى والصغرى من ديمقراطية وحقوق إنسان وأديان وآيديولوجيات متنوعة. والمفارقة أن الأفكار لم تنتشر في منطقتنا بسبب قوتها، بل بسبب هشاشة الدول التي دخلتها. فقد ظهرت حركات مثل «داعش» وغير ذلك، وسقطت في الدول القوية، لكنها انتشرت مثل الوباء في الدول الضعيفة، مما يثبت أن المشكلة ليست في الفكرة بل في بنية الدولة وقدرتها على امتصاص الصدمات. وهنا تعود الثقافة إلى الواجهة، لا بوصفها مجرد رصيد رمزي، بل بوصفها حائط صد، وكأنها خيمة قادرة على الاستيعاب، وكأنها إسفنجة تمتص ما يتدفق من الخارج.
هذه الفضاءات الخمسة ليست جزراً منفصلة، بل تتفاعل باستمرار، ويعيد كل منها تشكيل الآخر. وأزمة منطقتنا أننا أسرى «عقلية التأثير» التي ترى العالم يفعل بنا، ولا ترانا نفعل فيه. وفوق ذلك، أصبح إنتاج المعرفة متقطعاً؛ لم يعد هناك ذلك الامتداد الطبيعي بين معلم وتلميذ، ولا انتقال للخبرة من الأسطى إلى الصبي أو من الشيخ إلى المُريد. انقطعت الجسور التي كانت تمنح الإنسان معرفة هادئة بهويته، بينما تجرفه الخوارزميات من مقطع فيديو إلى آخر، من دون سياق ولا عمق. هنا تحديداً يصبح السؤال عن الثقافة سؤالاً عن البقاء، لأن الثقافة هي آخر ما يربط الإنسان بذاكرته في عالم ينزلق بسرعة نحو فوضى الخوارزميات رغم نظامها.
الثقافة التي أعنيها ليست ثقافة الجماهير، ورغم أهميتها فإنني أعني الثقافة العالية التي أصبحت مهملة تماماً وسط بريق «فالصو» ثقافة الجماهير.