جريدة الجرائد

قراءة في كتاب منسي

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

إلى أين يتجه العالم؟ إن سارت الأمور كما يروج لها في أوكرانيا، أي السماح لروسيا بجزء غير يسير من تلك الدولة، فإن العالم يدخل فصلاً جديداً منذ الحرب العالمية الثانية، وتكسر القاعدة القائلة: "لا يجوز قطعاً أن تستولي دولة على أراضي دولة أخرى بالقوة". إن تم ذلك وهو احتمال، يعني أن لا أمن لدولة صغيرة أو متوسطة، أمام دولة جارة أكبر تطمع بجزء أو بكل أراضيها؛ وذلك طريق دولي معتم، لأن من الصعب الوقوف أمام رغبة الإدارة الأقوى في العالم وهي خلف المشروع إن تم. لذلك، فإن المراقب عليه أن يعود إلى ما كتبه مستشار الأمن الأميركي السابق جون بولتون لفهم شيء مما يجري تحوطاً، فقد يقسم العالم، ويتحطم التحالف الغربي. العالم أمام رئيس للولايات المتحدة "مختلف كلياً" محب لذاته، يعمل تحت شعار فضفاض "أميركا أولاً". هكذا جاء في وثيقة الأمن الاستراتيجي الرسمية لعام 2025، التي جسدت التحول من العولمة الليبرالية إلى السيادة الوطنية، وتعظيم المصالح المادية. لذا من الأوفق العودة إلى قراءة كتاب منسي. فحين صدر كتاب جون بولتون "The Room Where It Happened"قبل أعوام، ضجّ به الإعلام الغربي أياماً، ثم أُودِعَ في رفوف النسيان، لا لأن ما فيه كان عابراً، بل لأن ما كشفه كان صادماً أكثر مما تحتمله الذاكرة السياسية الأميركية، وقيل وقتها إنه مبالغ! اليوم، ونحن نتابع ما آلت إليه سياسات دونالد ترامب في أشهره الأخيرة من ولايته الثانية، يبدو الكتاب كأنه لم يُقرأ بعد، أو كأن نبوءاته لم تُستكمل إلا الآن. بولتون لم يكتب مذكرات موظف رفيع، بل سجّل شهادة على تحوّل عميق في طريقة إدارة القوة الأعظم في العالم، حين تصبح المزاجية، بديلاً عن الاستراتيجية، والصفقة بديلاً عن الحلف، والانتخابات بديلاً عن الأمن القومي. جوهر ما يقدّمه بولتون أن إدارة ترامب، في ولايته الأولى، كانت تُدار بعقلية رجل الأعمال، لا بعقلية رجل الدولة. الرئيس لا ينطلق من خرائط المصالح بعيدة المدى، بل من حسابات فورية، ماذا أربح الآن؟ ماذا أخسر انتخابياً؟ هذه العقلية، كما يصفها بولتون، أفرغت مفهوم التحالفات من معناها التقليدي، وجعلتها قابلة للمراجعة في أي لحظة، إذا تغيّر المزاج أو تبدلت المصلحة. ولم يكن ذلك توصيفاً نظرياً، بل ممارسة يومية في ملفات كبرى، شهدها المؤلف، من إيران إلى كوريا الشمالية، ومن الناتو إلى الخليج العربي. في ملف أمن الخليج تحديداً، يفتح كتاب بولتون نافذة مقلقة على هشاشة التزام واشنطن، لا من جهة المؤسسات، بل من جهة رأس السلطة. صحيح أن المنظومة الأميركية، من وزارة الدفاع (الحرب) إلى أجهزة الاستخبارات، كانت تنظر إلى الخليج بوصفه ركيزة أساسية للاستقرار العالمي وأمن الطاقة، لكن الرئيس نفسه كان ينظر إليه بمنظار مختلف: حلفاء أثرياء، يجب أن يدفعوا مقابل الحماية، لا شركاء في نظام أمن دولي. هذا التحوّل المفاهيمي هو أخطر ما في تجربة الولاية الأولى، لأنه ينقل العلاقة من تحالف استراتيجي، إلى عقد تجاري قابل للنقض. ويكشف بولتون، بلغة هادئة لكنها قاسية، أن الرئيس الأميركي كان مستعداً في أكثر من مناسبة لإعادة النظر في التزامات بلاده الأمنية، إذا بدا له أن التهدئة مع الخصوم – وخصوصاً إيران – قد تمنحه مكسباً سياسياً أو إعلامياً سريعاً. لم يكن مهووساً بالحرب، لكنه لم يكن متمسكاً بالتحالفات أيضاً. كان يتأرجح بين خطاب تصعيدي حاد ضد طهران، ورغبة دفينة في صفقة “تاريخية” معها، حتى لو أزعجت الحلفاء وأربكت توازنات المنطقة. هنا يطرح الكتاب، ضمناً، سؤالاً ما زال قائماً حتى اليوم: هل كان ترامب مستعداً للتضحية بجزء من أمن حلفائه في الخليج مقابل صفقة تهدئة مع الخصوم؟ شهادة بولتون تميل إلى أن هذا الاحتمال لم يكن مستبعداً في حسابات الرئيس. ما يكشفه الكتاب أيضاً أن كثيراً من القرارات الكبرى التي مست أمن المنطقة لم تُبنَ على تقديرات استراتيجية متماسكة، بل على انطباعات لحظية، أو على قراءة مبسّطة لمعادلات شديدة التعقيد. الضربة التي أُلغيت في اللحظة الأخيرة ضد إيران بعد إسقاط الطائرة الأميركية المسيرة (20 تموز/ يونيو 2019) مثال؛ فقرار الحرب كان قريباً، ثم تراجع عنه الرئيس في الدقائق الأخيرة كما يروي الكاتب، لا لأن الحسابات الاستراتيجية تغيّرت، بل لأن التكلفة البشرية بدت له عالية قياساً بالمكسب السياسي. هذا النمط من التفكير يفسّر جانباً كبيراً من حالة القلق التي سادت عواصم الخليج خلال تلك المرحلة، رغم قوة العلاقات العسكرية التاريخية. وحين ننتقل من شهادة بولتون عن الولاية الأولى إلى ما شهدناه في الأشهر العشرة الأولى من الولاية الثانية لترامب، نجد خيطاً ناظماً واحداً لم ينقطع؛ استمرار المزاجية السياسية، واستمرار تقديم الحساب الانتخابي والشخصي على الحساب الاستراتيجي. الفرق فقط أن ما كان في الولاية الأولى يُدار ضمن توازنات مؤسسية قوية نسبياً، صار في الولاية الثانية أكثر اندفاعاً، وأقل انضباطاً، مع تراجع وزن بعض “العقلاء” داخل الإدارة. المشترك الأعمق بين المرحلتين هو أن فكرة “الصفقة الكبرى” بقيت حاضرة دائماً، وأصبح العالم مجازاً يتغير مع "بندول" الرئيس، المفاجئ في الحركة والمتغير دائماً. القرار في واشنطن صار أكثر فردية، وأقل خضوعاً للميزان الاستراتيجي الثقيل، الذي عُرفت به الدولة الأميركية. واللافت أن كثيراً مما حذّر منه بولتون بشكل غير مباشر في كتابه، من تآكل الثقة في الالتزام الأميركي، ومن قابلية التحالفات لإعادة التفاوض، وفق منطق الصفقة تجسد عملياً في سلوك الإدارة في العشرة أشهر الماضية، حين أصبحت السياسة الخارجية أكثر تقلباً، وأكثر استعداداً للمغامرة، وأقل اكتراثاً بالتكلفة بعيدة المدى على صورة الولايات المتحدة أو مبادئها المعروفة. العودة إلى الكتاب، في ضوء هذا المسار، لا تعود مجرد تذكير، بل تتحول إلى تفسير لما قد يجرى لاحقاً. رغم خلافه الحاد مع ترامب، قراءة كتاب بولتون من جديد، توقظ متخذ القرار عالي المخاطر، لا على الحلفاء وحدهم، بل على النظام الدولي بأسره. عالم تتحرك فيه القوة الكبرى بلا بوصلة استراتيجية مستقرة، وحلفاء يكتشفون أن أمنهم، في لحظات معينة، قد يصبح بنداً تفاوضياً في صفقة لا يعرفون شروطها.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف