جريدة الجرائد

سوريا التي تتغير

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

مرَّت قبلَ أيام الذكرى السنويةُ الأولى للتغيير في سوريا، التي كان اختصارُها الشديد إسقاطَ نظام الأسد، وإقامةَ نظامٍ جديد مكانه. ووسط العام الأول في هذا التحول المفصلي، جرت تغييراتٌ وتحولات، فيها أحداثٌ وتطورات وتفاصيلُ، كان كثيرٌ منها مشغولاً ومقصوداً، فيما جاء بعضها بالنتيجة أو على هوامش الحراك العام في بلاد تغيرت بناها الحاكمة وآيديولوجيتها، وانفتحت أبوابها، وآفاق التفكير فيها عند قسم من سكانها بعد أن عاشوا عقوداً من الضبط والتضييق والإكراه، انتهت إلى حرب دموية شاملة، وعبر كل ما سبق تمت عملية تغيير، رسمت صورة سوريا في العام الأخير.

في المشهد العام، بدأت تغييرات سوريا مع لحظات سقوط نظام الأسد، وانهيار مؤسساته وأجهزته. وبدا من الطبيعي أن تكون أجهزته العسكرية والأمنية الجبارة في مقدمة الانهيار، إذ غابت وتفككت كلها في خلال ساعات قليلة من صباح الثامن من ديسمبر (كانون الثاني) 2024، ولعل ذلك مؤشر حقيقي على أن تلك المؤسسات لم تكن مؤسسات للدولة وللشعب السوري، كما يفترض، بل مؤسسات لنظام الأسد، انهارت بمجرد سقوطه، وكان من الطبيعي انعكاس ذلك على واقع ومسار بقية المؤسسات القائمة في سوريا، التي توقف أغلبها عن العمل، وانخفض أداء ما تبقى منها إلى حدود دنيا، ومنها مؤسسات خدمات الصحة والمياه والطاقة، وتوافق مع هذا التطور السلبي إعفاء كثير من المسؤولين في تلك المؤسسات من أعمالهم ومسؤولياتهم، بسبب ما هو مقدر في علاقات تلك المؤسسات والعاملين فيها مع النظام الساقط.

وكان من الطبيعي توجه النظام الجديد نحو معالجة انهيارات المؤسسات والأجهزة وعطالتها. فتم إحلال قوات غرفة «ردع العدوان» وأجهزتها الأمنية مكان جيش الأسد وأجهزته على التوالي، وبدأت عمليات ترميم وبناء الوزارات، والإدارات في تدريب كادرات جديدة، وإعادة عاملين قدامى إلى أعمالهم، ما سمح بتشغيل كثير منها، ولو بطاقات اقل، لكن بقواعد جديدة في خدمة المواطنين وأبعد عن الفساد الذي طبع مؤسسات وأجهزة نظام الأسد.

ولا يمثل التغيير في واقع المؤسسات والأجهزة الذي كان الهم الرئيس للسلطة الجديدة، إلا شقاً من عمليات التغيير. ففي الواقع بدأت تغييرات أخرى تظهر وتتواصل في عمق المجتمع، بعضها يسير في تغييراته، بالتعاون مع أجهزة ومؤسسات السلطة الجديدة، كما هو حال منظمات المجتمع المدني، التي تسعى بسبل متعددة إلى مساعدة المجتمع السوري في تجاوز ظروفه الصعبة في مجالات واسعة، تشمل التعليم والإغاثة والتدريب والخدمات، وهي مجالات تتقارب وتتماثل مع نشاطات أخرى، تحتاجها المجتمعات المحلية، يقوم بها شبان وفاعلون في مدن وقرى سورية، من أجل تحسين مستويات حياة السكان، عبر برامج تنمية اجتماعية اقتصادية، تشمل تدريبات واستشارات وتمويل مشروعات صغيرة وإقامة دورات دراسية، لا تشمل المناهج التعليمية فقط، بل التعليم الحديث للبرمجيات والشبكات والذكاء الاصطناعي والتسويق الإلكتروني، وكلها تنتمي إلى علوم وتخصصات، لم تكن رائجة في سوريا، بسبب سياسة النظام البائد في عزل السوريين وإغلاق أبواب تواصلهم عن العالم. والملاحظ أن جملة الجهود التغييرية غير الرسمية تشارك مصادر متعددة في تمويلها، وتقول التقديرات إن جزءاً محدوداً منها من مصادر منظمات أجنبية، والأهم من مصادر محلية، يقدمها رجال مال وأعمال من المغتربين السوريين، ويقدم متطوعون من الشباب والشابات جهودَهم وقدراتهم وما يستطيعونه من مال لتشغيل برامجهم.

التغيير السوري الجاري، وبالرغم مما يحيطه من ظروف ومشاكل، يمكن وصفه بأنه تغيير شامل وعميق، يصيب المجتمع والدولة والسلطة، لأنه يولد ملامح جديدة لكل واحد من الثلاثة، ويبدل الآيديولوجيات ومكانتها، ويفتح الأبواب على سياسات وممارسات مختلفة في مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى ما يتركه من تغييرات في القيم والسلوكيات الدارجة، وهو في الغالب الأعم يولد بدائل لما ظهر وترسخ في الزمن البعثي الطويل.

كثير من السوريين الذين يتابعون التغيير، سواء بأمل أو بقلق، يتفقون أنه لن يكون سهلاً وسلساً، بل سيكون مختلطاً وصعباً، وفيه استعصاءات كثيرة، لا تقتصر على إرث النظام الأسدي فقط، وما خلفته حرب النظام على السوريين من قتل وتهجير ودمار للموارد والإمكانات وفقدان للكادرات وعقوبات دولية، وكلها تحتاج إلى جهد ووقت لتجاوزها، كما يحتاج التغيير السوري إلى تحديث الدوائر والكوادر الإدارية والتقنية، خاصة في قطاعات، بينها الاتصالات والمصارف وغيرهما، وكله سيرتب على السوريين معاناة وفواتير كبيرة، ما يفرض على السلطة الجديدة والفئات القادرة وعلى المجتمع الدولي تقديم مساعدات جدية تتجاوز الإغاثة إلى إحياء دور الفئات الدنيا، ومساعدتها على المشاركة في عملية النهوض والانتقال نحو مجتمع حديث، فيه عدالة ومساواة وتشاركية، وخالٍ من الشمولية والفساد.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف