جريدة الجرائد

كلمة زائدة في بلاد الأرز

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

كان الخطاب السائد في ما مضى خطاباً «اصطلاحيّاً» رسمياً، يحجب الواقع القائم ويقصيه كأنه لم يكن... ليس فقط في الأنظمة السلطوية الأحادية بالمنطقة؛ حيث الصوت الواحد، بل أيضاً في الأنظمة التعدّدية، المتسمة بكثرة أصواتها، كالنظام اللبناني. الأمثلة كثيرة جداً، ولعل أكبرها تعبيراً أنه عشية حرب 1975 في لبنان - التي لم تنتهِ فصولها الطويلة بعد - كان الخطاب السائد في البلاد أن الصراعات الطائفية انتهت منذ زمن، والذي حلّ محلها، في عرف أهل النظام، هو «الوحدة الوطنية»، وفي عرف حركةِ الرفض الماركسيةِ الهوى هو «صراع الطبقات». وبينما كانت الصراعات الطائفية قد وصلت في الواقع إلى ذروة تأججها، منذرة بالانفجار الكبير، بقيت تلك الصراعات غائبة كليّاً عن الإعلام؛ ليس عن الإعلام الرسمي كالإذاعة والتلفزيون فقط، بل أيضاً عن الصحافة الواسعة التعدّد والاختلاف، وعن المقولات والخطب الحزبية الشديدة التباين.

أمرٌ عجب! لم يكن من مكان في ذلك كله للحقيقة الواقعة المستعرة. وحتى بعد أن انفجر الوضع، ظلّ الإعلام الرسمي يعزف على وتر «الوحدة الوطنية» نفسها. أما الإعلام «الثوري»، فبدلاً من رؤية الواقع كما هو، لجأ إلى تحويره إلى ما يلائم «صراع الطبقات» مخترعاً نظرية «الطائفة الطبقة» التي لا مثيل لها في القاموس الماركسي، قبل أن يمارس النقد الذاتي ويتخلّى عنها، لكن بعد فوات الأوان و«خراب البصرة».

مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، تمزّق ذلك الحجاب الذي كان يُخفي الواقع، واقتحمت أصواتٌ لا حصر لها الفضاءَ الإعلامي، بحيث غرق أكثر فأكثر الخطاب الرسمي في بحرها الهائج. تُرى إلى أين؟

ألقت زيارة البابا ليو الرابع عشر الأخيرة للبنان ضوءاً كاشفاً على هذه البنية الإعلامية المزدوجة، التي باتت سائدة في كل مكان. واللافتُ على هذا الصعيد، خلال الأيام الثلاثة التي أمضاها البابا في لبنان، عمقُ الاختلاف بين الخطبِ الرسمية من جهة، المعبّرةِ عن الحقيقة (الفوقي)، ومقولاتِ وسائل التواصل الاجتماعي من جهة أخرى، المجسّدةِ للحقيقة (التحتي). وليس المقصود بالخطب الرسمية تلك الصادرة عن المراجع الرسمية اللبنانية فقط، بل أيضاً عن جميع الأطراف التي شاركت في استقبال البابا أو توجّهت إليه، على اختلاف مشاربها؛ إذ أتاحت شخصيةُ الزائر قدراً من التلاقي والانسجام، غير المعهودَين، فتمحورت الخطب والمواقف الرسمية المعلنة حول كثير من المسلّمات والقواسم المشتركة، التي لا تكاد تثير اعتراض أحد... هذا «من فوق»، أما «من تحت»، في عالمِ التواصل الاجتماعي، الفالتِ وحَبْلُه على غاربه، فالصورة مختلفة تماماً، تهبّ منها كل العواصف، ليس بشأن زيارة البابا وشخصه بالضرورة، بل بين دعاة المشروعَين الكبيرَين اللذين يدور بينهما الصراع القائم اليوم، كما الأمس: المشروع اللبناني من جهة؛ والمشروع الإقليمي في لبنان من جهة أخرى، في صيغته الإسلامية الإيرانية هذه المرة، تحت راية الولي الفقيه. وقد سبق للمشروع اللبناني، منذ بروزه عام 1861، أن واجه مشروعات إقليمية كثيرة في لبنان؛ وَحْدَوِيّة سورية: فَيْصَلِيّة وبَعْثِية وأَسَدية، ووحدوية ناصرية، ثم فلسطينية - ناصرية، وماركسية أممية. أما صراعه الآن مع المشروع الإقليمي الإيراني، فهو على الأرجح الأشد قسوة وخطورة في تاريخه الطويل.

هكذا، بينما ظهرت نقاط التقاء كثيرة ممكنة في الخطب الرسمية من فوق، كان التصادم شاملاً مطلقاً من تحت، لا مجال فيه للتلاقي على شيء. ومثل ما عليه الأمر عادةً في «مجتمع الجماعات»، الذي هو المجتمع اللبناني ومعه كل مجتمعات المشرق، كان الأفراد المتصارعون، الذين لا حصر لهم، يعتقدون أنهم يعبّرون على طريقتهم عن أفكارهم الذاتية، لكن في الحقيقة هم يعبّرون عما يختلج في وجدان جماعاتهم، ولا رأي ذاتياً لهم. لذلك؛ فهو من تحت حوارُ الطرشان بين الجماعات، غيرُ المُفضي إلى مكان، لكنه هو التعبير الأصدق عن الحقيقة الواقعة.

يمكن التوقف طويلاً عند مضامين ومعاني هذه البنية الإعلامية المزدوجة، مما لا يتّسع له المجال هنا... لكنني سأكتفي بالإشارة إلى أمرين:

الأول: كلام بالغ الحدة والعنف في معسكر المشروع الإقليمي، صادر عن «شاعر»... كيف يمكن لشاعر أو موسيقار أو رسام أو نحات أن يكون على هذا القدر من العنف؟ كيف يلتقي الهاجس الجمالي مع ذلك؟

الأمر الثاني: عبارة تتردد أحياناً في معسكر المشروع اللبناني تقول: «سنبقى هنا، ولن نرحل»... كلمة زائدة حقاً، لا مكان لها ولا لزوم ولا حاجة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف