ترمب: لا تحبسوني
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
كيف ترى الولايات المتحدة دورها في السياسة العالمية على الأقل خلال الفترة المتبقية من ولاية الرئيس دونالد ترمب في البيت الأبيض؟ هذا هو السؤال الذي تريد استراتيجية الأمن القومي - التي نُشرت مؤخراً - الإجابة عنه، وفقاً للإجراءات التي اتبعها جميع الرؤساء منذ سبعينات القرن الماضي.
الورقة الجديدة هي الثانية من نوعها التي تحمل اسم ترمب. صدرت الورقة الأولى خلال ولاية ترمب الرئاسية الأولى، وكانت في الواقع من إعداد المؤسسة العسكرية والسياسة الخارجية وقتذاك، الموروثة من الإدارات السابقة، ولم تعكس آراء ترمب غير التقليدية. كانت الورقة أطول بثلاث مرات، ومملوءة بالكليشيهات، وذات نبرة سياسية صحيحة، ومصممة للتحايل والالتفاف على القضايا الشائكة والصعبة.
تزعم استراتيجية الأمن القومي الجديدة أنها تعكس قناعات ترمب العميقة. غير أن قراءة متأنية للورقة قد تطعن في هذا الادعاء. تقول الورقة إن السياسة الخارجية الأميركية يجب أن تكون ذرائعيَّة غير براغماتية، عملانية غير واقعية، مبدئية غير مثالية، قوية غير تشددية، ومتحفظة غير صقورية، إلخ.
إحدى الرسائل الرئيسية للورقة هي أن الولايات المتحدة ترغب في الإقلال من نفوذها الدبلوماسي عبر الامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.
ينبغي أن نفترض أيضاً أن ترمب لن يلقِي محاضرة على الصين بشأن الدالاي لاما والأويغور، وإنما سوف يُركز على التجارة والرسوم الجمركية والعجز. هذا كله جيد وجميل. ولكن هل يشير ذلك إلى تراجع النفوذ الدبلوماسي حقاً؟
لقد عيّن ترمب مسؤولين خاصين ليس فقط للشرق الأوسط ككل، وإنما أيضاً لإيران والعراق ولبنان وسوريا، مع السيطرة على قضية غزة، ناهيكم عن خطة أوسع نطاقاً لإنهاء الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. وسعى ترمب، خارج الشرق الأوسط، إلى تنفيذ أجندة نشطة بصفته صانع سلام في الكثير من الأماكن.
وتدخّل في الحرب الأخيرة بين الهند وباكستان، وتظاهر بدور الوسيط لوقف الصراع بين «طالبان» الأفغانية وباكستان. كما توسط في وقف إطلاق النار بين تايلاند وكمبوديا، ورعى اتفاقاً بين أذربيجان وأرمينيا،. ورعى اتفاقاً مماثلاً لإنهاء الحرب بين الكونغو - كينشاسا ورواندا.
كما اتخذ ترمب موقفاً بارزاً في الحرب بين إيران وإسرائيل الصيف الماضي، حيث قصف أهدافاً حساسة في إيران، ثم فرض وقفاً لإطلاق النار في مواجهة معارضة إسرائيلية شديدة. كما قال إنه نقض خطة إسرائيلية للقضاء على «المرشد الأعلى» علي خامنئي. فهل يمكن وصف مطالبته بأن يعفو الرئيس الإسرائيلي عن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بأنها عدم تدخل؟
كما اتخذ ترمب موقفاً بارزاً في الحرب في أوكرانيا، من خلال تقديم «خطة سلام» مفصلة، والتي على الرغم من وصفها من قِبل منتقديه بأنها منحازة لروسيا بشكل مفرط، فإنها تدفع كلاً من الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى ركن حرج.
كما أن تدخل ترمب العلني في الانتخابات الأخيرة في الأرجنتين والإكوادور وهندوراس لا يبدو موقفاً خفياً أيضاً. كما أن دعوته للرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا إلى إطلاق سراح الرئيس السابق جاير بولسونارو من السجن لم تكن دعوة سرية. أضف إلى ذلك استخدام ترمب للقوة ضد مشاركة فنزويلا وكولومبيا في تهريب المخدرات إلى الولايات المتحدة؛ الأمر الذي يشير إلى أنه ينوي إعادة إحياء «مبدأ مونرو» الذي يعدّ أميركا اللاتينية فناءً خلفياً، إن لم يكن حاجزاً فاصلاً، للولايات المتحدة.
تعكس ورقة استراتيجية الأمن القومي الجديدة ذلك من خلال الإشارة إلى عزم واشنطن على الحد من الوجود الاقتصادي للصين في أميركا الوسطى والجنوبية. كما تعيد الورقة تأكيد انتقادات ترمب الحادة للاتحاد الأوروبي، وتزعم أن أوروبا لم تعد كما كانت، من دون أن تحدد ما كانت عليه أوروبا في السابق. والمعنى الضمني هو أن أوروبا أصبحت الآن أقل بياضاً، وأقل مسيحية، وأقل رأسمالية، وأكثر تنوعاً من حيث المكونات الأفريقية والآسيوية والإسلامية والاشتراكية، مع قادة وصفهم ترمب في مقابلته مع موقع «بوليتيكو» بـ«الأغبياء». وقد فسَّر المعلقون الأوروبيون ذلك على أنه خطة ترمب للانسحاب من حلف «الناتو».
لكن دعونا لا ننسَ أن دول حلف «الناتو» تمثل 80 في المائة من صادرات الأسلحة الأميركية، في حين يعدّ ترمب التوسع الهائل في صناعة الأسلحة الأميركية أمراً حيوياً.
تعكس ورقة استراتيجية الأمن القومي وجهة نظر ترمب بأن الهدف من السياسة الخارجية والأمنية يجب أن يكون تحقيق رخاء أكبر للولايات المتحدة وحلفائها وشركائها. وفي هذا السياق، تم توجيه السفراء الأميركيين بالتركيز على القضايا الاقتصادية والعمل كمروجين للأعمال التجارية الأميركية في الخارج. وهذا يكسر التقليد الأميركي المتمثل في السماح للشركات التجارية بممارسة أعمالها في الخارج بثقة في أن السلع والخدمات الأميركية يمكن أن تنجح بمفردها. ولهذا السبب؛ كانت الولايات المتحدة هي الدولة الصناعية الوحيدة التي لم يكن لديها شركة نفط مملوكة للدولة.
وتؤكد الورقة مجدداً على أمل ترمب في إعادة التصنيع على نطاق واسع مدعوماً بسياسة تجارة خارجية استباقية من شأنها أن تزيد من المنافسة مع الصين. ومن المثير للاهتمام أن ترمب لا يعدّ الصين أو روسيا أعداء وإنما أنداداً ومنافسين.
عند تقييم هذه الورقة، دعونا لا ننسَ أن ترمب من غير المرجح أن يكون ملزماً بأي مخطط آيديولوجي وضعته مراكز الفكر. فقد تملص بكل براعة من «مشروع 2025 لتفويض القيادة» الذي نشرته مؤسسة التراث الأميركي في عام 2024، ووصف بأنه بمثابة خريطة طريق لولاية ترمب الثانية.
من الواضح أنه تنبغي قراءة ورقة استراتيجية الأمن القومي. لكن من الخطأ اعتبارها مرجعاً مطلقاً يحدد سلوك ترمب في المستقبل. أفضل نصيحة لجميع المعنيين هي قراءة واستماع ما يقوله ويكتبه ترمب وفريقه، لكن الانتظار لمعرفة ما سيفعله ترمب نفسه.
لا يمكن أن يكون ترمب ملزماً بأي بيان. إنه يذكّرنا بكلمات كول بورتر لأغنية وودي جودفري:
أعطوني أرضاً، أرضاً شاسعة تحت السماء المرصعة بالنجوم
لا تحبسوني
دعوني أمتطِ سرجي القديم
تحت سماء الغرب
لا تحبسوني!