فيلم «الست»... أشباح «المثنى» وثلاث تذاكر إلى الوراء
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
محمد ناصر العطوان
«الليل وسماه ونجومه وقمره... قمره وسهره... وأنت وأنا...»
هكذا، ومن حيث لا يحتسب المرء، وفي غفلة من هذا الزمن الذي حوَّلنا إلى «تروس» صدئة في ماكينة الحياة العملاقة، تأتي «الطلعات» المباغتة من أصدقاء السلاح القدامى لتكون هي طوق النجاة الوحيد من الغرق في شبر مياه المسؤوليات.
بلا مقدمات، وبلا «غروبات واتساب» تتحول إلى جلسات مجلس أمن لتحديد موعد يناسب الجميع، وبلا استخراج «تأشيرات خروج» معقدة من وزارة الداخلية (الزوجات)... رن الهاتف.
المتصل: «أديب الأدباء».
الهدف: عملية سطو مسلح لاختطاف «شهبندر التجار»، والتوجه فوراً لمشاهدة فيلم «الست».
الزمان: الآن... ولا عزاء للمسوفين، ولا مكان للمعتذرين.
وخلال ساعة واحدة -يا مؤمن- كنا قد نفضنا عن كواهلنا المسؤوليات وشبكة العلاقات، وارتدينا ملابسنا، ووصلنا إلى «المول».
التقينا عند باب السينما، ثلاثة أصدقاء، جمعتهم الشاشة الكبيرة قبل أن يجمعهم المكان، وكأننا عبرنا بوابة زمنية أعادتنا إلى تلك الأيام الخوالي في «مجمع المثنى»... تذكرون تلك الأيام؟ حين كنا نلتقي كل يوم، ونفكك «كلاكيع» السياسة والأدب والتاريخ، ونعيد تركيب الكون على مزاجنا... كنا نحلم بأماني بحجم السماء، وبأن نكون يوماً ما «ما نريد».
قبل أن تبتلعنا دوامة «الزواج والأولاد» والقروض، كنا نجلس هناك، في «جمهورية المثنى»، ترتفع أصواتنا ونبقى... ونبقى... حتى يأتي الحارس المسكين ليبلغنا بلهجة يائسة أن الأبواب ستغلق، وأن علينا أن «ننصرف» لنترك العالم يرتاح من نظرياتنا.
دخلنا القاعة، وبدأت الرحلة بحفلة كوكب الشرق في باريس...!
هنا تجلى «الثالوث الإبداعي»... المخرج مروان حامد، الذي رسم بالكاميرا وكأنه ينسج سجادة فارسية، والكاتب أحمد مراد، الذي ينبش في التاريخ بمشرط جراح ليجعلنا نرى أم كلثوم «اللحم والدم» لا الصنم، ومنى زكي، تلك التي لم تكن تمثل، بل كانت في حالة «تحضير أرواح» حقيقية لروح الست.
نحن الثلاثة أيضاً نشبه هذا الثالوث، جالسون في الظلام، حيث لم نكن نشاهد فيلماً عن «فاطمة بنت الشيخ إبراهيم البلتاجي» فحسب، بل كنا نشاهد «أنفسنا».
ذلك «التأثيث البصري والسمعي» المتقن جعلنا نشعر بدورة حياة كاملة تدور أمامنا... كيف تبدأ الأشياء صغيرة خائفة، وكيف تكبر وتتوحش، وكيف تصل إلى أوجها، ثم كيف تنتهي... أو تتحول.
شريط حياتنا كان يمر بالتوازي مع شريط الفيلم، عندما ظهرت «أم كلثوم الكاتبة»، رأيت صديقي «أديب الأدباء» تلمع عينه في الظلام، وكأنه يستعيد معارك قلمه وإهداءاته وأحلامه الأدبية ونصوصه الخالدة التي تعلمنا منها جميعاً وناقشناها طويلاً تحت سقف المثنى.
وعندما ظهرت «أم كلثوم رائدة الأعمال»، التي تدير إمبراطوريتها بذكاء ودهاء ومفاوضات شرسة، رأيت «شهبندر التجار» يهز رأسه طرباً، لا للنغم، بل لـ «نغمة» الإدارة والسيطرة، متذكراً صولاته وجولاته في دهاليز السوق.
أما أنا... فبين «أم كلثوم الإنسانة» التي تحب وتتألم وتكابر، وبين الفلاحة التي غزت القصور، كنت أقتطع جزءاً من ذاكرتي، وأربطه بجزء من حياتي الحالية.
لقد أدركنا في تلك الساعات القليلة أننا، ورغم الشيب الذي بدأ يحتل الرؤوس، ورغم استوائنا على عرش «الأربعينات» الملتهب، ورغم أننا أصبحنا «آباء» و«مسؤولين» ولنا وقار مصطنع، ما زلنا في العمق أولئك الشباب الثلاثة، تغيرت الديكورات، وتبدلت الأماكن من «بلاط المثنى» إلى مقاعد المول الوثيرة، ولكن الروح واحدة.
الفيلم لم يكن حكاية مطربة، بل كان مرآة عاكسة... رأينا فيه أن النجاح ليس مجرد صدفة، بل هو «معجنة» من التعب والدهاء والموهبة، ورأينا أن الصداقة الحقيقية هي التي تتحمل «فجوات الزمن»، وتعود لتلتحم في لحظة صفاء، لنكتشف أننا ما زلنا نفهم بعضنا من «نظرة»، ونضحك على نفس «الافيهات»، ونلعن «سنسفيل» الدنيا التي تشغلنا عن بعضنا.
خرجنا من الفيلم ونحن ندندن، لا بأصواتنا، بل بأرواحنا التي اغتسلت بماء النغم والذكريات، لسان حالنا يردد مع الست وهي تختصر كل هذا العمر وكل هذا الشوق في مقطع واحد:
«وعايزنا نرجع زي زمان... قول للزمان ارجع يا زمان...»
وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر... وكل ما لا يُراد به وجه الله... يضمحل.