حرب طويلة.. بلا ذاكرة ولا قيد
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
متى تنتهي الحرب؟ يتردد هذا السؤال كثيراً من دون أن تبدو في الأفق إجابة مُقنعة.. فجأة غيّرت إسرائيل استراتيجياتها الحربية، لم تعد حرباً خاطفة وسريعة كما كانت عام 1948 أو عام 1967 أو حتى حرب 2006. أشار بعض المحللين إلى أن السبب هو تغيّر الحروب، من حروب ضد جيوش منظمة إلى حروب ضد فصائل مقاومة.. لكن هذا السبب يبدو واهياً لأن حرب 2006 والتي كانت الأطول لم تستمر أكثر من 32 يوماً وكانت ضد مقاومة. إذن ماذا حدث لتخوض إسرائيل حرباً طويلة تستمر أعواماً وتقاتل فيها على أكثر من جبهة مُتجاهلة الالتزام بقانون دولي أو مفاوضات حلّ سلميّ؟
هذا التحول الجديد يطرح أكثر من سؤال، أهمها.. لماذا الآن؟
الحقيقة الواضحة أن الحرب تطول وقد تستمر أطول لأنها بكل بساطة &"سهلة&"، ولا تُكلِف خسائر تُذكر في الجنود، ولا تتطلب أكثر من كبسة زر وإعادة تحديث للبرمجيات. حرب بلا ذاكرة.. لأن الخوارزميات لا تذكر أسماء من قتلتهم. تستهدف &"قائد مرصود&" ولا تهتم للمدنيين الأبرياء الذين يقتلون معه. وبلا قيد.. لأن لا أحد يحاسب الآلة.. هي حرب جديدة بأسلحة غير تقليدية، ولنقل أكثر سرية، سُربت لها حصرياً من أودية السيليكون، حيث يُعاد تشكيل تاريخ الحروب، وحيث اتخذ البنتاغون له مكاناً فيها. هناك حدث للتقدم المُزدهر في الذكاء الاصطناعي ما حدث سابقاً للتقدم الفزيائي والكيميائي، حيث اسُتغلت تقنيات تَهدف إلى خدمة الإنسانية في أعمال القتل والتدمير. اليوم يُعاد نفس السيناريو القديم. تُستغل التقنيات الحديثة والتقدم التكنولوجي لصناعة قنابل ومُسيّرات وتسخير بيانات، بهدف خلق قوة عسكرية رخيصة الكلفة، ذكية والأهم.. سِرية وحصرية.
الحرب نفسها ليست جديدة، الجديد أن اليد التي تديرها.. خوارزمية، حيث يُختزل إنسان كامل (اسم، وملامح، وذكريات) إلى سطر في بيانات ضمن قاعدة مَعلومات تقرره في ثانية &"هدفاً مؤكد&". هكذا أصبح الذكاء الاصطناعي لاعباً أساسياً في حربٍ طويلة، لا تنتهي. أكد تقرير &"هيومن رايتس واتش&" أن الأدوات الرقمية التي استعملت في غزة كانت سبباً مباشراً لتعريض المدنيين لخطر القتل بناء على بيانات غير مُكتمِلة وتخمينات خوارزميات تفتقر إلى التدقيق البشري. كانت حرب غزة حقل تجارب لهذه التقنية، استعمل قتل الأبرياء لتطوير قدرات هذه الأسلحة. هي حرب لا تفرق بين مُقاتل وطفل، لأن البرنامج نفسه لا يُفرق بينهما، بل لا يَهتم. خوارزميات تنتج &"قوائم قتل&" والبشر يضغطون الزر.
في تحقيق استقصائي لصحيفة &"الغارديان&" كشف فبه عن أن إسرائيل اعتمدت نظام الذكاء الاصطناعي (لافندر) لتحديد ما يقارب 37 ألف فلسطيني كأهداف، مع موافقة بشرية على القرارات التي تقترحها الآلة. الأكثر إثارة للقلق، أن بعض المسؤولين وصفوا نسبة الخطأ المُحتَملة بأنها &"مقبولة&" وكأن الحياة البشرية لم تعد إلا رقماً في هامش الإحصاء. هي ليست حرباً تدار باجتهادات عسكرية، بل خط إنتاج للقتل، يُوّلد أهدافاً على مَدار الساعة. وصف هذا التحول بأنه &"صِناعة قصف مُستمرة&" تعتمد على وفرة البيانات، وتغيب فيها الضوابط الإنسانية والقانونية. هكذا أصبحت غزة &"مُختبراً بشرياً&" لأسلحة الذكاء الاصطناعي الإسرائيلي. اختبار حيّ لبرامج تصنيف، ومراقبة، واستهداف.. تُجرى على مجتمع محاصر لا يستطيع الاختباء من عدسات الأقمار الاصطناعية أو أنظمة التعقب البيومتري.
مؤسسات بحثية عالمية، أكدت أن هذه الأنظمة لا تُستخدم فقط لتحديد مواقع المقاتلين، بل لإدارة حياة المدنيين بالكامل: من تنقلاتهم، إلى اتصالاتهم، إلى شبكة علاقاتهم الاجتماعية. هنا القمع ليس لتدمير البيوت فحسب، بل لتدمير القدرة على العيش بهدف إخلاء الأرض من سكانها.
المشهد يتضح يوماً بعد يوم، الخوارزمية تمنح القرار &"طابعاً تقنياً&" تمسح مسؤولية يد القاتل ويضيع صوت الضحية داخل قاعدة بيانات محروقة. تستمر الحرب، لأنها سهلة في غياب الخسائر المعروفة. لا جنود قتلى، ولا ضغط شعبي، لا مساءلة، ولا محاكمات.. آلة تقتل بلا قيد ولا ذاكرة. هكذا تستمر حرب تدار بمنطق &"لم لا؟&" ولدينا قوة سِرية لم تُسَرّب بعد للعالم. &"لم لا؟&" والخوف من التوقف قد يعني أن تتسرب بعض هذا التقنيات وأسرار برمجياتها للخصوم، وتجربة تسريب أسرار القنبلة النووية لا تزال حاضرة في الأذهان.
أما &"لماذا الآن؟&".. لأن الغد غير مضمون والشعور بالتفوق التقني لن يدوم.