جريدة الجرائد

اقتصاد خفي

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

في غضون سنوات قليلة، تحولت محفظتنا من كومة من النقود والأوراق إلى مجرد "نقرة" على "الجوال" أو "مسحة" للبطاقة، فقد أصبحنا نعيش في عصر "الاقتصاد اللا مرئي"، حيث تتم المعاملات بسرعة الضوء دون الحاجة لعدّ النقود أو حتى لمس العملات.

ورغم أن هذا التطور يمثل قمة الكفاءة والسرعة، إلا أنه أحدث تحولًا عميقًا في علاقتنا بالمال، محولًا الدفع اللامرئي إلى إنفاق لا واعٍ، فعندما كنا ندفع بالنقود الورقية (الكاش)، كان هناك "ألم جسدي" خفي مرتبط بالإنفاق؛ رؤية الأوراق النقدية وهي تغادر اليد كانت بمثابة فرملة نفسية طبيعية تكبح جماح الإنفاق الاندفاعي، لكن مع تحول المال إلى مجرد أرقام مجردة تتبدل على شاشة التطبيق، ألغي هذا الألم تمامًا، فقد أصبح الشراء عملية مريحة، سريعة، وناعمة لدرجة أنها لم تعد تشبه اتخاذ قرار مالي حقيقي، بل أصبحت أشبه باللعبة التي تنتهي بنقرة.

هذا التغيير له تأثير خاص على الجيل الجديد الذي لم يعتد أصلًا على التعامل بالكاش، فبالنسبة لهم، لا يمثل المال المُنفق قيمة مادية، بل يمثل مجرد خفض لرقم في الرصيد.

لقد أصبحوا أكثر عرضة للإنفاق الاندفاعي، خاصة في عمليات الشراء عبر الإنترنت، حيث تتضافر سهولة الدفع مع جاذبية الشاشة لتحول قرار الشراء إلى رد فعل فوري، هذا التآكل في الوعي المالي يخلق فجوة بين القيمة الحقيقية للمال وسهولة التخلص منه.

إن التحدي الحقيقي ليس في التقنية نفسها، بل في كيفية تدريب عقولنا على استشعار قيمة المال في بيئة رقمية لا مادية.

لتحويل الإنفاق "اللا واعي" إلى "واعي"، نحن بحاجة إلى تكتيكات رقمية جديدة، فيجب أن نربط الإنفاق بالوعي من خلال تطبيقات الميزانية التي تُظهر "كم تبقى" وليس "كم لديك"، لخلق صورة بصرية للأثر المالي لكل نقرة، كما يمكننا فرض تأخير رقمي مقصود، خاصة في عمليات الشراء الكبيرة عبر الإنترنت، مما يمنح العقل "فترة تفكير" قبل إتمام العملية، ويُمكن لبعض البنوك والتطبيقات المساعدة عن طريق إرسال إشعارات فورية تعرض الرصيد المتبقي بعد كل عملية شراء، لإعادة تفعيل الإحساس بالفقدان.

في النهاية، يبقى الدفع اللا تلامسي تطورًا لا يمكن الرجوع عنه، لكن الذكاء المالي الحقيقي يكمن في إدراك أننا يجب أن ندير ليس فقط أموالنا، بل علاقتنا النفسية بالمال في هذا "الاقتصاد اللامرئي". الإدراك هو الخطوة الأولى لضمان أن تبقى المحفظة الرقمية أداة للتمكين، وليست بوابة للإنفاق اللا واعي.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف