من يحدث العالم عنا!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
ليلى أمين السيف
في عالم تتسارع فيه الأحداث وتكثر فيه التحديات، تبرز الأيام والمناسبات العالمية كفرص ثمينة لتذكيرنا بقيم إنسانية نبيلة، وفرص لتعزيز رسائل السلام والمحبة والعدل.
في كل عام، تمر بنا عشرات المناسبات العالمية؛ يوم للأم، ويوم للبيئة، وآخر للسلام، للتسامح، للتطوع، للصحة، بل حتى للقطط!
ليست مجرد تواريخ عابرة، بل منصات تُطلّ منها الأمم برسائلها، وتُسوّق من خلالها قيمها، وتُعيد رسم صورتها في نظر العالم. كل مناسبة تحمل في طياتها دعوة للتأمل والعمل، لوقفة إنسانية تتجاوز الأيديولوجيات واللغات.
ومن هنا، يأتي دورنا: كيف يمكن لأمة الإسلام، التي تحمل في تراثها أعمق هذه القيم، أن تُعيد تقديم نفسها بصدقٍ ووعي؟
في السطور القادمة، سنمر على بعض هذه الأيام، لا لنصفق لها كما يفعل الآخرون، بل لنكشف كيف سبقها الإسلام، وكيف يمكننا أن نُجسدها لا في الشعارات.. بل في الحياة.لكن، وسط هذا الصخب المعلّب، حيث تتحول الأكاذيب إلى حقائق بالإخراج، ويُعاد تدوير القيم النبيلة في مصانع الإعلام لتُستخدم كواجهة لغايات رخيصة آن أوان توحيد الجهود الاسلامية بين الحكومات والمؤسسات والعلماء والمفكرين لإبراز قيم الإسلام كما هي: حضارة تُعاش، لا شعارات تُرفع. فالإسلام لا يُختصر في منشور، بل يُترجم في سلوك يومي، والعالم لن يؤمن بكلماتنا حتى تُدهشه أفعالنا.
هي مناسبات تنبض بالأمل، وتُذكّر الناس بمبادئ نبيلة، لكننا حين نعود إلى جذورنا، نواحي حياتنا منذ قرون، قبل أن تُكتب في مواثيق الأمم، وتُرفع لها الشعارات.
في «يوم الصحة العالمي» ونُذكّر بأن الإسلام جعل «الوقاية خير من العلاج» منهجًا حياتيًا، واعتبر الجسد أمانة لا يجوز إهمالها.النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن لبدنك عليك حقًا»، وجعل الطهارة شطر الإيمان، وربط بين العافية والشكر، والمرض والتكفير من الذنوب.
وفي العالم أجمع يُفترض أن يكون يوم الصحة العالمي مناسبة للاحتفاء بالحياة والعافية، لكن الواقع مختلف تمامًا.
الغرب، الذي يتحدث عن «رعاية صحية للجميع»، يختزن في جعبته أدوية وعلاجات حقيقية يُخفيها أو يعرقل انتشارها، ليظل المرض وقودًا لصناعة الأدوية التي تدرّ مليارات على شركاته.
كوفيد-19 وغيرها من الفيروسات، ليست مجرد أوبئة طبيعية، بل أحيانًا تُستغل أو حتى تُصنع في مختبرات لتحقيق مصالح اقتصادية وسياسية ضخمة.
الاحتكار، رفع الأسعار، تعطيل توزيع اللقاحات والعلاجات.. كلها أدوات بيد كبار اللاعبين للحفاظ على هذا النظام المربح.
أما الإسلام فدعانا للوقاية والعلاج، وحث على التداوي، والتكافل الصحي، حيث لا مكان لجشع البشر على حساب صحة الناس.
في يوم الصحة العالمي، لا نريد شعارات، بل عدالة حقيقية في الوصول إلى العلاج، ووقف استغلال المرض كوسيلة للربح.
وفي «اليوم العالمي للتطوع» نتذكر أن أول من بادر لمساعدة الغير لم يكن ينتظر «يومًا عالميًا» بل ينتظر أجرًا من الله.
قال صلى الله عليه وسلم: «خير الناس أنفعهم للناس»، وجعل تفريج الكرب، والسعي في قضاء الحوائج، من أحب الأعمال.
وفي «يوم الأم العالمي» يحتفل العالم بالأم يوماً بينما أوصى الإسلام بها في كل يوم، ورفع مكانتها ثلاث درجات فوق الأب، وجعل رضاها من رضا الله.
في الثقافة الإسلامية، لا يُعد البر مجرد واجب أخلاقي، بل هو فضيلة متجددة، مستمرة كل يوم، تُمارَس بهدوء ودفء دون انتظار مقابل.
هذا المفهوم العميق، الذي تجذّر فينا منذ قرون، لم تتنبه إليه بعض الفلسفات الغربية إلا مؤخرًا، حين أطلقت عليه أسماء حديثة مثل: الوعي الأسري في التربية أو مسؤولية رعاية الوالدين.
Mindful parenting أو elder care responsibility
ولو أمعن الغرب النظر في مفهوم البر كما نعيشه في الإسلام، لأدرجوه ضمن قاموس القيم الكونية تحت عنوان يليق به:
«الرابطة المقدسة للعطاء والامتنان The Sacred Bond of Grace»
وفي «اليوم العالمي للسلام»، ترتفع الشعارات، وتُلقى الخُطب، وتُوزّع الجوائز لكن العالم لا يزداد إلا صخبًا بالحروب. فمن يُشعل الحرائق اليوم في العالم؟
أليست هي ذات الدول التي تتغنّى بالسلام في مؤتمراتها، ثم تُصدّر السلاح في صمتٍ قاتل؟ من يُشعل الفتن؟ من يزرع الانقلابات؟ من يختلق الذرائع لتقسيم الأوطان واحتلال العقول قبل الأراضي؟ من يُنتج القنابل ثم يُدرّس الأطفال أن العنف لا يحل المشاكل؟ إن الدول الكبرى التي تحتكر صناعة السلاح، هي ذاتها التي تحتكر سردية «السلام»، تُهيمن على قرارات الأمم، وتدير الحروب عن بُعد، ثم تمسح وجهها بغبار الإنسانية.
أما الإسلام، فلم يكن يومًا ناريًا في رسالته. بل جاء ليُطفئ الحروب، لا ليشعلها. جاء ليُقيم القسط لا الهيمنة، ويرفع الظلم لا يوزّعه.
فأيُّ سلام نحتفل به، إن لم نُسمع العالم صوت العدالة الحقيقي؟
وأيُّ رسالة نُصدّر، إن كنا صامتين عن دينٍ يقدّم السلام لا كهدنة، بل كأصلٍ وغاية.
ففي الإسلام، السلام ليس مجرد غياب للحرب، بل حالة من الطمأنينة تبدأ من الداخل وتمتد إلى المجتمع والعالم. حتى «الجهاد» الذي شوهته الروايات، يبدأ بجهاد النفس وضبطها، لا بسفك الدماء.حان الوقت أن نعيد تعريف السلام بصوتنا، بلغتنا، من منبع ديننا.
في «يوم الغذاء العالمي»، وبينما تُرفع الشعارات الرنانة عن محاربة الجوع وسدّ رمق الفقراء، تُرتكب جريمة صامتة على مرأى العالم: تُلقى أطنان من القمح والزبدة والذرة في المحيطات، لا لأنها فاسدة، بل لحماية الأسعار من الانخفاض. إنها سياسة التجويع المتعمّد، حيث يتحكم الجشع في لقمة العالم.
الدول الغربية الكبرى، التي ترفع رايات «الإنسانية»، تمارس أكثر أشكال الإرهاب الاقتصادي قسوة، حين تمنع بعض الدول من زراعة محاصيلها الاستراتيجية، أو تفرض عليها بذورًا معدلة وراثيًا لا تُثمر إلا مرة واحدة، لتظل أسيرة الحاجة والاستيراد والديون.
هذه ليست مجرد سياسات زراعية، بل منظومة قمع وهيمنة، تصنع الجوع عمدًا، ثم تتظاهر بالبكاء عليه في مؤتمرات أنيقة وطاولات مكتظة.
أما الإسلام، فقد علّمنا أن الطعام نعمة لا تُرمى، وأن «من كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له»، وأن من يحتكر قوت الناس يُلعنه الله والناس أجمعون. دين يربّي أتباعه على الكفاف والعطاء، لا على الجوع المصطنع والأسواق العقيمة.
تأتي خطبهم أكثر اخضرارًا من أوراق الشجر في ربيع متأخر، ووعودهم أكثر اخضرارًا من حقول القمح المزروعة بالسموم، وشعارات لامعة عن الاستدامة وحماية الكوكب لكن الواقع، أكثر تلوثًا من هوائهم.
من يستهلك أكثر موارد الأرض؟ من يُنتج النسبة الأكبر من النفايات الصناعية؟
لقد سيطر الغرب على الأسواق العالمية بخطة محكمة: قدموا منتجات رديئة الجودة تُعطب بسرعة، ليجبروا المستهلكين على شراء قطع الغيار باستمرار. بهذا الأسلوب، قضوا على الصناعات القوية والمحلية التي كانت تنافسهم، وحولوا السوق إلى دوامة لا تنتهي من الاعتماد عليهم. هكذا، أصبح التحكم في الجودة وسلسلة التوريد أداة للهيمنة الاقتصادية، لا مجرد تجارة.
ها هم يُطلقون تجاربهم النووية وسط المحيطات، كأنّ الأرض مختبرهم الخاص، والبحار ساحاتهم لتجارب الكيماويات التي تسمّم الحياة دون رحمة أو حساب.
من يروّج لمنتجات غير مستدامة، تعبأ بالبلاستيك وتُشحن حول العالم، ثم يلوم الشعوب الفقيرة على بصمتها البيئية؟
البيئة ليست مجرد شجرة تُزرع أمام الكاميرات، بينما تُجرف غابات بأكملها خلف الستار لتوسعة مصانعهم.
ولا نهر يُنقّى، بينما تُلقى ملايين الأطنان من نفاياتهم الكيميائية في مياه العالم.
ديننا سبق البشرية في ترسيخ علاقة متوازنة مع الكون فقد وصانا صلى الله عليه وسلم: «إماطة الأذى عن الطريق صدقة»، وحرّم قطع الشجر في الحرب، وأوصى بعدم الإسراف في الماء ولو كنت على نهر جارٍ.فكيف لو كنا على كوكب يئن من تلوث من يدعون الحفاظ عليه؟
فأيّهم أحق بالاحتفال؟ من يرفع شعار البيئة؟ أم من عاشه دينًا وسلوكًا؟
وفي «اليوم العالمي للوالدين» يكتفي العالم بوردةٍ وكلمةٍ سنوية، بينما جعل الإسلام برّهما طريقًا إلى الجنة و شدد على حسن الصحبة وليس فقط الطاعة .برٌّ لا يُقيد بيوم، ولا ينتهي بوفاة، بل يمتد دعاءً ووفاءً.
قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، وجعل برّ الأم أضعافًا، والأب سُلمًا للنجاة.
لماذا لا نستثمر هذه الأيام العالمية لنُقدّم الصورة الأصيلة للإسلام، دين القيم والمبادئ التي يتغنون بها اليوم وكأنهم مكتشفوها؟
لماذا نغيب عن المشهد، بينما بإمكاننا أن نُطلق حملات توعوية ومبادرات عالمية تُظهر كيف سبق الإسلام إلى رعاية البيئة، وتقدير الوالدين، وتشجيع التطوع، والعناية بالصحة؟
لماذا نترك المنصات للآخرين، بينما كتابنا وسُنتنا مليئة بما يضيء للعالم دربًا لو أُحسن تقديمه؟
العالم لا ينقصه من يتكلم عن الإسلام، بل من يُجسده وإذا كنا نؤمن بعظمة هذا الدين، فإن علينا واجبًا عظيمًا أن نحمله بوعي، وننشره برحمة، ونعرف به العالم لا بالتلقين، بل بالتجربة الحية.
لكن في زمن تتسابق فيه الأمم لتسويق أفكارها، لا يكفينا أن ننتظر أن تُكتشف قيمنا صدفة بل علينا اليوم أن نُعيد صياغة الرسالة.
قيمنا تُعاش بصدق، نعم.. لكن علينا أيضًا تقديمها بذكاء، و عرضها بجمال، ولتُروى للعالم بلغة يفهمها. ففي هذا الزمن، علينا فرض وجودنا القيمي لا بالإكراه، بل بالحضور القوي، وعلينا تسويق مبادئنا لا بالتنازل عنها، بل بإبراز عظمتها في واقعٍ يتعطش لها فلنُقدم الإسلام كما هو: نورًا يسبق الجميع.. لا ردّ فعل على حملات غيرنا.
بنت -ابوها- رحمه الله وأمواتنا أجمعين، نوفمبر 2025
** **
- كاتبه يمنية مقيمة بالسويد