بشارة رقميّة..!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
الكلمات ليست محايدة كما نتصوّر، ولا بريئة كما تبدو في ظاهرها، بعض الكلمات تحمل في جوفها تاريخًا من الشعور الجمعي، وتختزن طبقات من المعنى تتجاوز القاموس إلى الذاكرة، ومن الدلالة اللغوية إلى الأثر النفسي والاجتماعي، من بين هذه الكلمات، تقف كلمة «أبشر» بوصفها واحدة من أكثر المفردات العربية دفئًا وحميمية، وأكثرها التصاقًا بالوجدان اليومي للإنسان العربي، والسعودي على وجه الخصوص.
لغويًا، تأتي «أبشر» من البِشارة، وهي الإخبار بما يسرّ، وما يفتح باب الأمل في النفس، لم تكن البشارة في التراث العربي مجرد خبر، بل كانت وعدًا ضمنيًا بالخير، ورسالة طمأنينة تُقال غالبًا في لحظة انتظار أو قلق، حين تقول لأحدهم «أبشر»، فأنت لا تنقل معلومة فحسب، بل تمنحه شعورًا بأن الأمر مُنجز، أو في طريقه إلى الإنجاز، وأن لا داعي للقلق، إنها كلمة تؤدّي وظيفة نفسية قبل أن تؤدي وظيفة لغوية.
ومن هنا، يبدو اختيار «أبشر» « -مع قطع الهمزة- اسمًا لتطبيق الخدمات الحكومية الرقمية في المملكة العربية السعودية اختيارًا ذكيًا يتجاوز البعد التقني إلى بعدٍ رمزي وثقافي عميق، فالدولة، حين تخاطب مواطنيها عبر منصة رقمية تحمل هذا الاسم، إنما تقول لهم - دون خطاب مباشر -: إن العلاقة لم تعد علاقة إجراء جامد أو معاملة باردة، بل علاقة ثقة، وسلاسة، وتيسير.
في الماضي القريب، كانت المعاملة الحكومية تقترن - في الوعي الجمعي - بطول الانتظار، وتعدّد المراجعات، وكثرة النوافذ، وتكرار الأسئلة، وكان المواطن يدخل المؤسسة الرسمية وهو محمّل بتوجّس غير معلن، اليوم ومع التحول الرقمي تغيّر المشهد، لكن الأهم من التغيير التقني هو تغيير اللغة التي تدار بها هذه العلاقة، فأن تُسمّى المنصة «أبشر»، فهذا يعني أن الدولة اختارت أن تبدأ الحوار مع مواطنها بكلمة تطمئن، لا بكلمة تأمر، أو تُعقّد، أو تُربك.. «أبشر» ليست كلمة سلطوية، ولا تقريرية، ولا فوقية، هي كلمة مساواة وجدانية تُقال من شخص لآخر في مستوى إنساني واحد، ولذلك فإن وجودها في فضاء حكومي رسمي يحمل دلالة على تحوّل فلسفة الإدارة نفسها: من إدارة الإجراءات إلى إدارة التجربة، ومن سلطة الورق إلى خدمة الإنسان، وفي سياق رؤية المملكة 2030، التي جعلت من التحول الرقمي أحد أعمدتها الكبرى، يبدو «أبشر» مثالًا على أن الحداثة لا تعني القطيعة مع اللغة المحلية، ولا مع المخزون الثقافي، بل تعني إعادة توظيفه بذكاء، فالتطبيق رقمي متطور جداً عالي الكفاءة، لكنه يتحدث باسم كلمة نعرفها منذ الطفولة، ونسمعها في البيوت، والأسواق، والطرقات، وفي لحظات الوعد البسيطة.
الأمر اللافت هنا أن «أبشر» لا يعدك فقط بالخدمة، بل يوحي ضمنيًا بسرعة الإنجاز، وكأن الاسم نفسه يسبق الفعل، ويهيئ النفس لتجربة إيجابية، وهذا بحد ذاته جزء من جودة الخدمة، لأن الانطباع النفسي هو أول بوابة للرضا.. في النهاية، يمكن القول: إن اختيار كلمة «أبشر» لم يكن تفصيلاً لغويًا عابرًا، بل كان قرارًا ثقافيًا واعيًا. قرارًا يُدرك أن اللغة ليست زينة للمشاريع، بل روحها الخفية. وأن الدولة الحديثة، حين تتقن اختيار كلماتها، فإنها لا تُدير خدماتها فقط، بل تُدير شعور مواطنيها تجاهها.
وهكذا، تصبح «أبشر» أكثر من تطبيق… تصبح جملة كاملة تقول: نحن هنا، والخدمة أقرب مما تظن، فاطمئن.