جريدة الجرائد

وداعاً مع الحنين إلى رسائل البريد

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

عبدالرحمن الحبيب

يشعر البعض بالحنين إلى ماضي استلام البريد حين كان حدثاً ذا شجون، مليء بالترقب والتواصل الإنساني ومتعة استقبال الرسائل، لا سيما إذا كانت مكتوبة باليد لتمسك أصابعك الظرف تتأمل خط صاحبه وشخصيته، تتخيله وهو يختار الطابع ويطوي الورقة ويغلق الظرف..

الشعور بأن أحدهم خصّص وقتًا لك يُشكل فعلا حضورا هادئ التواصل عميق المعنى، ويمثل للبعض طقساً محفزاً يتيح وقتًا للتأمل عند تلقي رسالة ورقية أو بطاقة تهنئة.

لقد ولّى هذا الزمن.

يقول السيد كوريلد - كليتغارد من الدنمارك:

«في عام 2023، كنا لا نزال نتلقى 50 بطاقة تهنئة بعيد الميلاد عبر البريد.. وفي العام الماضي، تلقت العائلة بطاقة واحدة».

يعيش كوريلد- كليتغارد في حيّ راقٍ في كوبنهاغن، كان فيه ستة صناديق بريد كلٌّ منها على بُعد دقائق سيرًا على الأقدام؛ أما اليوم فلا يوجد أيٌّ منها.

وصرح لبي بي سي متحدث باسم بوست نورد وهي هيئة البريد الوطنية:

«نحن الآن في وضع فقدت فيه الرسالة مكانتها في حياة الناس اليومية».

لقد حسم مصير الرسالة عبر البريد التقليدي، نتيجةً لانتشار الاتصالات الرقمية وخدمات توصيل الطرود والتجارة الإلكترونية، وتراجعت خدمات البريد التقليدية في ظل انخفاض حاد في حجم الرسائل وارتفاع ملحوظ في توصيل الطرود والتسوق الإلكتروني، مما أدى إلى تغييرات جوهرية في عمليات البريد حول العالم وصارت خدمات البريد توجه أعمالها للتركيز على الطرود، فقد أشارت التوقعات في منتصف العقد الأول من الألفية الثانية إلى أن نسبة الرسائل إلى الطرود ستصل إلى التساوي تقريبًا بحلول عام 2025، بعد أن كانت 13:1 في عام 2005 .

يتم الآن تقليص صناديق البريد أو إلغائها في شتى أنحاء العالم، ففي كندا مثلاً سبق لمؤسسة البريد الكندية أن استبدلت خدمة التوصيل من باب إلى باب بصناديق بريد مشتركة للعديد من السكان، وذلك في ظل الخسائر المتزايدة. وفي الهند أوقفت مؤسسة البريد الهندية خدمة البريد المسجل الشهيرة اعتبارًا من 1 سبتمبر 2025، ودمجتها مع خدمة البريد السريع الأكثر حداثة، وإن كانت أغلى، بهدف تبسيط العمليات. على الرغم من الشائعات المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي، أكدت هيئة البريد الهندية رسميًا في أغسطس 2025 أن صناديق البريد الحمراء المادية لن تُوقف وستبقى عاملة.

أياً يكن، فإن عام 2025 علامة فارقة في تراجع خدمات البريد التقليدية أو اختفائها في أجزاء من العالم، وأصبح «عصر صناديق البريد» للبريد التقليدي على نطاق واسع في طريقه إلى الزوال.

وفي نهاية هذا العام ستتم في الدنمارك خطوة أبعد مما خطاه الجميع، وربما بداية سيتبعها كثيرون، حيث ستنهي بوست نورد خدمة جمع وتسليم الرسائل تمامًا، بعد 400 عام من الخدمة، نتيجة أنه على مدار الخمسة والعشرين عامًا الماضية، انخفض حجم الرسائل بنسبة 90 %.

في عام 2024 وحده، انخفضت خدمات البريد التقليدية بنسبة 30 %، نتيجةً لقانون جديد أنهى التزام الدنمارك بالخدمة الشاملة (الذي ألزم شركات البريد بتوفير الخدمة للجميع بسعرٍ معقول) وفتح السوق أمام المنافسين.

كما ألغت إعفاء خدمة البريد من ضريبة القيمة المضافة. وارتفعت تكلفة البريد للرسالة المحلية القياسية إلى 29 كرونة دنماركية (4.50 دولار أمريكي)، و39 كرونة دنماركية للتسليم في اليوم التالي (مجلة الإيكونيميست).

هذا التحول لا يخص البريد التقليدي وحده، بل يشمل قطاعات واسعة من الأعمال حول العالم، بداية بمنافسة الأجهزة الإلكترونية (الريموت والذكاء الاصطناعي) للبشر في وظائفهم، وليس نهاية بتعرض الفن الإبداعي البشري للتهديد بسبب الإنتاج الفني عبر أدوات الذكاء الاصطناعي من أفلام وشعر ورواية؛ إنما زمن البريد التقليدي في طريقه إلى الزوال وليس فقط تعرضه للمنافسة الشديدة.

تاريخياً، يُعتقد أنه في عام 1653، تم تركيب أول صناديق بريد في باريس وما حولها وبحلول عام 1829، كانت صناديق البريد تُستخدم في جميع أنحاء فرنسا حسب ويكيبيديا؛ ومن صناديق البريد العامة المبكرة تطورت صناديق البريد المنزلية في أوروبا في خمسينيات القرن التاسع عشر، وفي الولايات المتحدة بأواخر خمسينيات القرن التاسع عشر ثم تفرعت منها صناديق البريد الإلزامية (1923) حيث أصبح وجود صندوق بريد أو فتحة مخصصة له إلزاميًا في كل منزل، مما أنهى انتظار ساعي البريد عند الباب وعزز دور صندوق البريد لدرجة أن تطورت صناديق البريد من مجرد أداة وظيفية إلى عناصر جمالية مزخرفة وتعبيرية تعكس أذواق أصحاب المنازل.

أما الأجيال الشابة فربما لا تدرك من ذلك شيئا فقد صار البريد التقليدي في طي النسيان، وقد تشهد السنوات القادمة إزالة آخر صندوق بريد ليدخل متحف التاريخ، وليحل محله زمن التواصل الرقمي ورسائله الفورية التي تتدفق بسرعة البرق عبر الشاشات والرموز التعبيرية الجاهزة، حاملاً في طياته لدى البعض شعوراً بالحزن أو الحنين، رغم أنه قرار عملي في عصر البريد الإلكتروني، ولكنه يثير أيضاً تساؤلاً مؤثراً:

ما الذي نفقده عندما نتوقف عن كتابة الرسائل واستلامها؟

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف