جريدة الجرائد

طوماس براك وبؤس السياسة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

ليس في نفس طوم براك شيء من زحلة الجميلة ولبنان الجميل. ربما كان أجداده أتراكاً، أو كانوا "زحالنة" موالين للدولة العثمانية، وبينهم وبينها تجارة رابحة، لذلك لن تعني "زحلة" له، ما كانت تعنيه لشاعر لبناني كسعيد عقل، أو لشاعر مصري كأحمد شوقي، ما قد يفسر حرص هذا المندوب الأميركي على أن يكون سفيرا للولايات المتحدة في تركيا، لا في أي بلد آخر في العالم، يدفعه حنين عثماني إلى زمن كان فيه لبنان وسوريا خاضعين لحكم الباب العالي في إسطنبول. الكلام عن طوماس براك وجذوره وولاء جدوده، والشك في حياده، يدخل في باب التكهنات، لا يثبته حقيقة إلا التأريخ، لكن الذي يثير الشكوك، هو تصريحات الرجل المشينة والمهينة بحق اللبنانيين، وموقفه المريب من لبنان والحقيقة اللبنانية، والعلاقة ببن لبنان وسوريا. لقد سبق وعممت عبر الهاتف نصا يفيد أن لبنان لم يكن يوما جزءاً من سوريا الدولة ولن يكون، فجاءتني ردود كثيرة من أصدقاء، وكتب إليّ الشاعر الصديق هنري زغيب والصديقة النائبة پولا يعقوبيان يثنيان، وأضيف هنا أن سوريا الحالية ليست هي "سوريا" التي جاء الكلام عنها في الكتب القديمة، بل جزء منها، ومن الخطأ، بل من الجرم أن يضم لبنان إليها كما يتمنى طوم براك، ورئيسه ترامب، والصهاينة الذين يريدون الاحتفاظ بالجولان، وأن يتخلى الحاكم الجديد في دمشق عنه، في مقابل أن تمنحه الولايات المتحدة، كنوع من المقايضة السياسية، أجزاء من لبنان ومنها طرابلس، المدينة اللبنانية الثانية بعد بيروت. كلام باراك في مؤتمر الدوحة: "يجب أن نجمع سوريا ولبنان" بلطجة سياسية بامتياز، وفي لغته 'Political thuggery' . يتكلم كصاحب عقارين، هما سوريا ولبنان، وكمن يعتلي كرسي المؤرخ، جاهل بعلم التاريخ، كما رئيسه تاجر العقارات، الذي لا يبدو أنه قرأ كتاب تاريخ واحد في حياته. وكيف لبراك ورئيسه أن يفهما "حق الفهم" علاقة لبنان بسوريا، وأن يفهما "حق الفهم" أيضا، أن الجدل حول هذه العلاقة ليس جدلاً تاريخياً بقدر ما هو نتاج سوء فهم متعمَّد أو جهل فاضح بمعنى «سوريا» نفسه. فكثير مما يُقال اليوم يُسقِط مفاهيم الدولة القومية الحديثة على عصور لم تعرفها، ويحوّل الجغرافيا إلى أداة دعائية فارغة. اسم «سوريا» ليس عربياً، ولم يكن يوماً اسماً لدولة قبل القرن العشرين. هو مصطلح إغريقي روماني للدلالة على مساحة متغيّرة من شرقي المتوسط، امتدّ معناها أحياناً إلى الفرات، وانحصر أحياناً بالساحل، ما ينفي أي ادّعاء بوجود "سوريا تاريخية" بحدود سياسية ثابتة، أو كيان سياسي متواصل. أمّا العرب، فكانوا أكثر دقة حين استخدموا مصطلح "بلاد الشام" بوصفه توصيفاً جغرافياً للأراضي الواقعة شمال الحجاز، تماماً كما سمّوا ما يقع جنوبه "اليمن". قبل انهيار الدولة العثمانية، لم تكن هناك دولة اسمها سوريا، ولا دولة اسمها لبنان. كانت المنطقة مقسّمة إلى ولايات عثمانية وإدارات محلية، من بينها دمشق وحلب وصيدا، إضافة إلى متصرفية جبل لبنان التي تمتعت بنظام إداري خاص منذ عام 1861، من دون أن تكون دولة مستقلة أو ذات سيادة. ومع ذلك، لا يزال البعض يصرّ على الحديث عن "تبعية" لبنان لسوريا، وكأن هذه الأخيرة كانت دولة قومية ثم اختفت، وهو تزوير صريح للتاريخ. الدولة السورية الحديثة، كما الدولة اللبنانية، وُلدت بعد العام 1920 في سياق الانتداب الفرنسي، وحدودهما الحالية ليست نتاج تطور تاريخي طبيعي، بل نتيجة قرارات دولية فرضت نفسها بعد الحرب العالمية الأولى. وعليه، فإن القول إن لبنان كان "جزءاً من سوريا الدولة" لا يستند إلى أي أساس تاريخي، بل إلى خطاب سياسي لاحق يحاول فرض نفسه بالمعروف أو بالمتلوف By hook or by crook ,الأمر نفسه ينطبق على بقية "بلاد الشام". فشرق الأردن نشأ تحت الانتداب البريطاني، وتحول إلى المملكة الأردنية الهاشمية عام 1946، بينما بقيت فلسطين تحت الإدارة البريطانية، ولم تتحول إلى دولة ذات سيادة بسبب المسار الذي بدأ بوعد بلفور في العام 1917، وأفضى لاحقاً إلى قيام دولة إسرائيل في العام 1948. هذه الوقائع ليست وجهة نظر، بل حقائق تاريخية موثقة. إن تحويل "بلاد الشام" من فضاء جغرافي مفتوح إلى "دولة تاريخية واحدة" لم تكن موجودة يوماً، ليس قراءة للتاريخ، بل إساءة إليه. والتاريخ، مهما جرى العبث به في الخطاب السياسي، لا يخضع للرغبات ولا يُعاد تشكيله بالشعارات. فمن أراد نقاشاً سياسياً فليفعل، ما شاء له "الله" أن يفعل، أمّا الادّعاء بأن الماضي يمنح شرعية لخيارات الحاضر، فهو خلط مقصود بين الجغرافيا والهوية والدولة، لا يصمد أمام أي بحث جاد. مراجع عربية: "الريف اللبناني في العهد العثماني" لعبد الرحيم أبو حسين "بلاد الشام في العصر العثماني" لنقولا زيادة "تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين" لفيليب حتي مراجع أجنبية: The Arabs of the Ottoman Empire- by Bruce Masters The Modern History of Lebanon- by Kamal Salibi The Arabs: a history- by Eugene Rogan

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف