لمن تُقرع أجراس الحرب في سوريا؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
إذ يقترب الوضع في سوريا من لحظة حاسمة، أزعم أن تأخير جهود المصالحة الوطنية يهدد بتقسيم البلاد وتفتيتها في المدى القريب جداً. وإذ يبدي نتنياهو دهشته لسرعة التسهيلات التي يقدمها الطرف السوري من أجل تقدم المفاوضات الأمنية، وفيما تُمارَس الولايات المتحدة أقصى الضغوط على سوريا لتوقيع اتفاق أمني مع إسرائيل، وفيما تصر إسرائيل على اتفاق تعاقدي مع الإدارة السورية بحيث تصبح دمشق مدينة ساقطة عسكرياً بيد إسرائيل، ولأجل غير مسمى، وفيما تضع إسرائيل أقصى الشروط لتحديد قدرات سوريا في تطوير دفاعاتها الجوية بما فيها الصواريخ والمسيرات، وفيما تطالب إسرائيل بتسليمها ملفات أمنية للأشخاص الموجودين على الأراضي السورية الذين تجد فيهم تهديداً لأمنها، فيما يجري كل ذلك، تكرر السلطات السورية القول إن سوريا لن تكون مصدر تهديد لأي من جيرانها. فلئن كانت الإدارة السورية مستعدة للتوقيع على اتفاقات أمنية طويلة الأمد مع إسرائيل، ولئن كانت لا ترغب في الحرب مع أي من جيرانها "الطيبين" من إسرائيليين وأتراك وإيرانيين، فمن هم الأشرار؟ ولمن تُقرع أجراس الحرب في سوريا؟ ولمَ يتسلح الجيش السوري ويستعد؟ وضد من؟ من هو العدو؟بدل أن تذهب الحكومة السورية نحو اتفاقيات أمنية جزئية مع إسرائيل، يتم تأخير الجهد السياسي التفاوضي الحقيقي لتحقيق المصالحة الوطنية الطوعية بين السوريين وصولاً إلى سلم أهلي مستدام، ورسم نموذج دولة وطنية لامركزية. دولة وطنية، تكون مبنية على عقد اجتماعي مدني ديموقراطي جامع، يكون المصدر الأساسي للحقوق وأساساً لاحتكار الدولة للعنف ويضبط العلاقة بين كل السوريين بمختلف مشاربهم، التي لا تنحصر قطعاً لا في طائفتهم ولا في قوميتهم. عقد اجتماعي يؤسس لعقيدة عسكرية جامعة للجيش السوري الوطني تجسد الحياد العقائدي الدولة، وتكون مجردة عن الطوائف والعقائد الدينية أو القوميات. فما الذي يعنيه بقاء الجمود الوضع الداخلي على الحال الراهنة من دون توحيد البلاد طوعاً وتوافقاً؟ وما الذي يعنيه الذهاب نحو اتفاقات جزئية مع إسرائيل تمنحها كل ما تريد وتسلب سوريا السيادة على جزء كبير من أراضيها وتجعل من دمشق مدينة ساقطة عسكرياً وموضوعياً؟ وما الذي يعنيه السير في توافقات جزئية في الوضع الداخلي والتلكؤ في إنتاج العقد الاجتماعي ودستور توافقي سوري؟ فمن دون وحدة الشعب السوري قلباً وقالباً، لن تحمي سوريا الضمانات الأميركية (والعبرة في غزة)، ولا أوراق الاتفاقات مع الجيران "الطيبين". بل و"بالوعد يا كمون".أزعم أن تأخير المصالحة الوطنية التوافقية والتعاقدية وإنجاز العدالة الانتقالية، سيعني عملياً استمرار الخطابات التكفيرية وتكريس خطابات تحرير القدس بحجة غياب السلام من جهة، لكنه من جهة أخرى سيكرّس حالة التقسيم في البلاد إلى أجل غير مسمى وإبقاد جذوة الحرب الداخلية مشتعلة تهدد بتقسيم نهائي للبلاد! وسواء في شرق الفرات أم في جبل العرب أم في شمال غربي سوريا وشمال سوريا حيث تسيطر الفصائل الموالية لتركيا (والتي عاقبتها بريطانيا أخيراً)، يتكرّس واقع عملي خارج سيطرة الدولة المركزية. ذلك أن ثمة خطراً كبيراً على مستقبل البلاد من وراء الاندفاع نحو اتفاقات أمنية جزئية خطرة مع الخارج، في مقابل تباطؤٍ في مصالحة وطنية تعاقدية في الداخل. الفكرة الجوهرية تتعلق بالأولويات: أيهما ينبغي أن يسبق الآخر؟ هل تُبنى الدولة من الداخل أولاً—بعقد اجتماعي جديد—ثم تُدار الملفات الخارجية من موقع وحدة وطنية؟ أم تُدار الأخطار الخارجية أولاً على حساب تأجيل "العقد" ليتكرس الانقسام ويتصلب الضعف ويسود منطق التكفير والاقتتال الداخلي وتستعيد الساحة لغاتها القصوى: خطابٌ ديني متشدد من جهة، وخطابٌ تعبوي واسع من جهة أخرى، وواقعٌ يتفتت تدريجياً. عندها لا يعود الانقسام مجرد اختلاف سياسي؛ يتحول إلى خرائط نفوذ، ومؤسسات موازية، وولاءات اقتصادية وأمنية، و"سرديات" عن الشرعية لا تلتقي.ما يجب العمل عليه هو مصالحة وطنية تعاقدية لامركزية، تُنتج عقداً اجتماعياً مدنياً ديموقراطياً جامعاً، يكون مصدراً للحقوق والواجبات، ويعيد تعريف علاقة السوريين بالدولة على أساس المواطنة لا الطائفة ولا القومية. إذ لا تُبنى الدولة فقط بالدساتير، بل كذلك بما يرسّخ حياد المؤسسات السيادية تجاه الهويات الفرعية، لتصبح وظيفة القوة حماية المجال الوطني لا تمثيل جماعة بعينها، ولتصبح مقاربة كل ملفٍ خارجيٍ مرآةً لوحدة الداخل لا لأزمته، حيث يكون تأجيلٌ للتسوية الداخلية فرصةً للتدخل الخارجي. مأزق الترتيبات الأمنية أنه يفترض أصلاً وجود دولة واحدة، موحدة قادرة على تحويل الهدوء إلى بناء سياسي. أما حين يكون الداخل موزعاً بين سلطات فعلية ومناطق نفوذ، فإن الهدوء لا يتحول تلقائياً إلى إعادة توحيد، بل يكرّس الانقسام. فلن يكون ثمة سلام على الحدود ما لم يسبقه سلام في الداخل. يقول غرامشي عن "المرحلة الانتقالية": حين يحتضر القديم ولا يولد الجديد، تخرج "الوحوش"، أي تخرج أشكال الفوضى والتطرف والاقتصاد المسلح. وما يتكرس على الأرض في الشرق الأوسط، هو الذي يدوم؛ فـ"الموقت" يخلق وقائع تستقر وتدوم. بذلك لا تعود أجراس الحرب سؤالاً بل جواباً: إنها تُقرع حين تُترك الدولة بلا عقد، والجيش بلا عقيدة جامعة، والسيادة بلا إجماع وطني. يقول جون دن: "لا تسأل لمن تُقرع الأجراس؛ إنها تُقرع لك".