التنافس الإعلامي بين بنغازي وطرابلس
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
شهدت الساحة الإعلامية ووسائل التواصل ظهور تنافس واضح بين بنغازي وطرابلس في استقطاب أكبر عدد من الإعلاميين والمؤثرين من خلال منتديات وملتقيات إعلامية ثقافية كي تبرز ما في ذلك البلد الجميل من تراث وتاريخ وحضارة كادت تنسى أمام أخبار الانقسامات والصراعات الداخلية بين قوات شرقية موالية لبنغازي وقوات غربية موالية لطرابلس.
انتهجت تلك الصراعات النهج العسكري حيث حدث تصادم بين المعسكرين لكنه لم يكن حرباً، بل سلسلة مواجهات تتقدم وتتراجع. لم يكن التصادم بين مدينتين، بل بين تحالفات مسلحة تمثل مشاريع سلطة. أول تصادم كبير كان عام 2014. في تلك المرحلة انقسمت البلاد سياسياً ثم بظهور السلاح، معسكر في الشرق يحمل شعار &"الحسم الأمني&" ومعسكر في الغرب يتمسك ب&"الشرعية السياسية&". التصادم لم يكن خطاً مستقيماً، بل مسرح مُتحرك. الذروة كانت بين 2019-2020. هنا حصل التصادم العسكري الأوضح والأوسع عندما تحولت خطوط التماس إلى حرب مفتوحة حول العاصمة. لم تكن معركة مدن، بل بين قوات مسلحة من الشرق ضد قوات مسلحة من الغرب. وبعد عام 2020 لم ينتهِ الصراع لكنه تجمّد عسكرياً. وبقي السلاح حاضراً كتهديد لا كحرب يومية.
تحوّل الصدام إلى (نفوذ، اقتصاد، مؤسسات، تعيينات، وشرعية مُعلقة). وهكذا أصبحت ليبيا اليوم كمن يقف على حافة حرب. السلاح لم يختفِ لكن الصراع تحوّل إلى من يمثل ليبيا أكثر ومن يؤثر في الرأي العالمي أكثر؟ إن تأثير الإعلام في المشهد الثقافي في ليبيا يعيد صورتها كبلد عريق بشعبٍ طيب يستحق أن يعيش بسلام بعيداً عن السلاح والقوات التي تتصارع على السلطة.
لكن حتى في هذا التوجه الهادف وجدنا مُنافسة شديدة بين &"منتدى بنغازي للإعلام&" الذي أقيم في سبتمبر (أيلول) الماضي وأعطي صورة مُشرقة عن بنغازي التي حاربت الإرهاب وتصدت للإسلام السياسي واتخذت سلاح الثقافة الهادفة والانفتاح على الإعلام العربي طريقاً لتثبت فيه أنها جديرة بتمثيل ليبيا الجديدة. فما كان من طرابلس إلا أن ردت بملتقى إعلامي استقطبت فيه معظم الوجوه الإعلامية لتعطي للعالم العربي صورة عن كونها ما زالت هي العاصمة وهي التي تمثل ليبيا، رغم الانتقادات الواسعة التي واجهتها بسبب دعمها للإسلام السياسي واعتباره فاعلاً في المجتمع. الفرق هنا أن طرابلس اختارت احتواء الجماعات الإسلامية بينما بنغازي كانت أكثر بعداً في نظرتها، ورفضت رفضاً قاطعاً التطرف والإرهاب، فقالت &"لا&" حازمة.. وهنا يكمن جوهر الخلاف بينهما.
نتيجة لهذه الخلافات تكونت في ليبيا حكومتان.. واحدة في طرابلس وأخرى في بنغازي. حكومة طرابلس تسمى &"حكومة الوحدة الوطنية&" ومقرها طرابلس، وهي الحكومة المُعترف بها دولياً. تسيطر على غرب ليبيا وتدير مؤسسات سيادية مهمة (البنك المركزي وبعض الوزارات، والتمثيل الخارجي). أما حكومة الشرق (بنغازي) فهي تسمى &"حكومة الاستقرار الوطني&" منبثقة عن مجلس النواب في الشرق وتعمل في بنغازي. وهي حكومة غير مُعترف بها دولياً، لكنها قائمة على الأرض تدير شؤوناً إدارية وخدمية وتحظى بدعم عسكري وسياسي وشعبي في الشرق والجنوب.
هذا التناقض هو لب الأزمة الليبية: العالم يتعامل مع واقع حكومتين، لكنه يعترف بواحدة والليبيون يعيشون نتائج الاثنتين معاً.. ازدواجية قرارات، مؤسسات مُنقسمة وخطاب إعلامي مُتنافس. لهذا يظهر أحياناً توصيف &"حالتان ليبيتان&" أو لنقل &"سلطتان&" لا لأن القانون يقول ذلك، بل لأن الواقع فرض نفسه. المشكلة ليست في التسمية، بل في طول أمد هذا الوضع، الذي قد يُحوّل المؤقت إلى دائم. أن نكون أمام حكومتين في بلدٍ واحد.. وضع غير صحي، والخطر أن يعتاد الجميع هذا الانقسام كأنه الشكل الطبيعي للدولة.
أما تحويل الصراع من عسكري إلى إعلامي ثقافي فهو خطوة جيدة قد تفيد في تقييم الوضع وتقريب وجهات النظر بعيداً عن السلاح. الانفتاح الاقتصادي لغة يحبها المُستثمر الأجنبي وتعطي صداها في العالم لكنها ليست كافية لتشجيع الاستثمار لأن رأس المال لا يتأثر بالشعارات الإعلامية بقدر ما يسأل عن الضمانات الأمنية.. في ظل التوجه العالمي اليوم نحو تحجيم دور الجماعات الإسلامية خاصة &"الإخوان&"، وفي ظل عدم وضوح موقف العاصمة منهم.
تقلّ فرص النهوض الاقتصادي المُتوقعة من هذه الملتقيات التي تبقى مجرد رسائل مُنَافسة بين مدينتين.. تبعث بها كل مدينة لتقول &"أنا ليبيا&".