جريدة الجرائد

القضايا العربيّة ونهاية العلاج الأوحد المزعوم

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

حتى السبعينات ظلّت الوجهة المسيطرة على الفكر السياسيّ العربيّ، والمشرقيّ منه خصوصاً، تقترح علاجاً واحداً أوحد لهموم تلك المنطقة. فبـ«الوحدة» و«التحرير»، تضاف إليهما أحياناً الاشتراكيّة التي يبدأ تقسيطها بـ«نظام وطنيّ ديمقراطيّ»، تُحقّق عشرات الملايين آمالها المنشودة، لا تردعها عن ذلك «حدود مصطنعة» أو تفاوت يفصل بين دولة ودولة ومجتمع ومجتمع.

وفي هذه الغضون كانت قضايا الأقلّيات تُثار أو تحتقن، بالإثنيّ منها كقضيّة الكرد في العراق، أو بالدينيّ كقضايا اليهود والمسيحيّين العرب. بيد أنّ أصحاب العلاج الأوحد ظلّوا يصرّون على علاجهم إيّاه، مكتفين بوصف المسائل «الطرفيّة» تلك بالمؤسفة، أو بردّها إلى أصابع أجنبيّة، واعدين بأنّها سوف تُعالَج بالعلاج الأوحد نفسه الذي يستأصل كلّ أشكال التفاوت ويجعلنا مثل أسنان المشط.

حتّى الحروب الأهليّة، ابتداء باليمن في مطالع الستينات، ثمّ لبنان في أواسط السبعينات، بولغ في تسييسها هذا حفاظاً على نقاء التحليل. هكذا نُسّبت إلى «يمين» و«يسار» وإلى «تحرّر وطنيّ» يقاوم «الاستعمار».

وكان أصحاب العلاج الأوحد يجدون ما يستمدّون منه المدد في أحداث وظاهرات متفرّقة كثورة الجزائر والعدوان الثلاثيّ على مصر ووحدة مصر وسوريّة، وأخيراً الثورة الفلسطينيّة. لكنْ فضلاً عن تناقص تلك الأحداث والظاهرات، آثر المعتدّون بها تجاهل تناقضاتها الذاتيّة أو تصغير حجم التناقضات تلك. فلا انفصال سوريّة عن «الجمهوريّة العربيّة المتّحدة» استقطب ما يستحقّه من اهتمام، ولا الاحتراب الناصريّ – البعثيّ العاصف بالمعسكر «الوطنيّ والتقدّميّ»، أو حقيقة أنّ الثورة الفلسطينيّة ذاتها إنّما كانت انشقاقاً عن القوميّة العربيّة الناصريّة.

أمّا المرّة الأولى التي انكشف فيها، على نحو مُدوٍّ لا يقبل التستّر والتمويه، أنّ نظريّة العلاج الأوحد لا تعالج شيئاً، فكانت مع أنور السادات. فمن خلال «المبادرة» ثمّ معاهدة كامب ديفيد، تبيّن أنّ الأولويّة المصريّة، وهي استعادة الأراضي الوطنيّة المحتلّة في 1967، تخالفُ الأولويّة التي تفرضها نظريّة العلاج الأوحد، وأنّ حرب 1973 إنّما كانت من صنف اللقاءات العابرة التي تمهّد لافتراق طويل.

ومن موقع مختلف، ضربت إيرانُ الخمينيّةُ النظريّةَ المذكورة من زاويتين: فهي، من جهة، أقحمت الإسلام السياسيّ في أجندة كانت تؤكّد على القوميّة والتقدّميّة. وهي، من جهة أخرى، وهو التأثير الأهمّ، طيّفت المنطقة بما يتعارض كلّيّاً مع مزاعم النظريّة إيّاها. وقد جاءت الحرب التي افتتحها عراق صدّام لتدفع التطييف إلى ذروة لم تَفُقْها إلاّ ذروة الحرب اللاحقة التي شنّتها الميليشيات الخمينيّة، اللبنانيّة والعراقيّة، على السوريّين.

لكنْ ما كادت تتوقّف الحرب العراقيّة – الإيرانيّة حتّى كان الغزو العراقيّ للكويت الذي شطر العالم العربيّ شطرين، واضطُرّ البلد الصغير المغزوّ إلى الاستنجاد بالأجنبيّ للمساعدة على دحر «الشقيق» الغازي.

وكانت أوراق التوت حينذاك تتساقط بغزارة، فترتسم «الأنظمة الوطنيّة التقدّميّة»، وهي الأكثر استثماراً في نظريّة العلاج الأوحد، أنظمة قمع وفساد عاريين مصحوبين بالفشل الإنجازيّ والتوريث الجمهوريّ والسطو على البلدان المجاورة الأضعف.

وفي السياق هذا اندرج انهيار الاتّحاد السوفياتيّ بوصفه الطرف الأبويّ المشرف على اشتغال العلاج الأوحد وقواه المحلّيّة، يهندس جبهاته ويسلّح جيوشه وتنظيماته ويدرّب جواسيسه ثمّ يدافع عنه في مجلس الأمن.

وبدوره فإنّ موضوع فلسطين، «القضيّة المركزيّة» منذ قمّة أنشاص العربيّة في 1946، بات أقلّ مركزيّة بكثير. فاتّفاقيّة أوسلو توقّف إقلاعها بعد بناء سلطة تقلّ كثيراً عن التوقّعات. وإذ عصفت انشقاقات كان أبرزها وأخطرها انقلاب «حماس» واستقلالها بغزّة، ساد شعور عامّ بالضجر حيال قضيّة بدا أنّها لا تُحَلّ، فيما توزّعت الدول العربيّة بين تلك المُنكبّة على شؤونها الداخليّة وتلك المنسحبة تبعاً لأكلاف باهظة لا تستطيع تحمّلها مرّة أخرى. وهذا قبل أن تستولي على «القضيّة» قوى الممانعة وتدرجها بنداً مُتصدّراً في الحروب الأهليّة العربيّة كما تُلحقها بمشاريع النفوذ الإيرانيّ وتوسّعه.

وفي موازاة ذلك كلّه نشأت، بعد 2003، مسألة عراقيّة هي، إلى حدّ بعيد، مستقلّة بذاتها، ثمّ كانت الثورات التي طرحت، في بداياتها، أجندات لبلدانها يصعب وصلها بـ«الهمّ القوميّ الجامع»، بينما راح يصعد ما عُرف بـ«النموذج الخليجيّ» مصحوباً بجاذبيّة لا يربطها رابط بنظريّة العلاج الأوحد. فحين نشبت الحرب الأخيرة التي استدعتها عمليّة 7 أكتوبر، تبدّى افتراق هائل بين التوقّعات الفلسطينيّة والسوريّة واللبنانيّة.

لقد طوّر الناقد الويلزيّ والبريطانيّ رايموند وليمز تصوّراً مفاده توزّع أيّة جماعة ثقافيّة إلى ثلاثة أجزاء: واحدٍ «مسيطر»، وآخر «ناشئ»، وثالث «مترسّب». وقد يجوز لنا إدراج نظريّة العلاج الأوحد في الوعي المترسّب الذي يعادل تأثيرات، واعية أو غير واعية، تخلّفها الممارسات الثقافيّة القديمة على المجتمعات الحديثة. والمترسّب ليس بالضرورة قديماً مهجوراً، إذ هو ناشط وقويّ وفعّال، يزيده قوّةً ضعف الوعيين المسيطر والناشىء. وهذا ما يصف، إلى حدّ بعيد، أحوالنا مع العلاج الأوحد، حيث لا تزال تتردّد تعابير «الوطن العربيّ» و«القضيّة المركزيّة»، وقد تدوم طويلاً على هذا النحو، بينما نمعن في التفرّق أيدي سبأ.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف