جريدة الجرائد

القيادة بالثقة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

في عالم يتسارع فيه الإيقاع حتى باتت القرارات تُتخذ قبل أن يكتمل صداها، لم تعد القيادة مجرد إدارة للمهام، بل أصبحت فنًا لصناعة بيئة تعمل فيها العقول بطمأنينة، وتتحرك فيها الفرق بثبات. ومن بين النماذج التي أثبتت جدواها في المنظمات الحديثة، تتقدم القيادة بالثقة بوصفها قاعدة إيجابية لبناء الأداء، لا مجرد أسلوب لطيف في التعامل.

الثقة ليست عاطفة تُمنح بدافع حسن النية، ولا شعاراً يصلح كملصقات، إنها منظومة عمل تُبنى على وضوح الغاية، وشفافية التوقعات، واتساع مساحة المبادرة. حين تشعر الفرق أن الثقة ليست مكافأة مؤقتة، بل قاعدة ثابتة. والنتيجة ليست فقط ارتفاع الإنتاجية، بل ظهور نوع من النضج المؤسسي ينعكس على جودة القرار وسرعته.

القيادة بالثقة تعني أن الفريق يعرف ماذا يريد منه النظام بدقة، ويعرف أين تبدأ صلاحياته وأين تنتهي، ثم يُمنح حرية الحركة داخل هذا الإطار. إنها انتقال ذكي من متابعة التفاصيل إلى قيادة المعنى، ومن مراقبة الوقت إلى إدارة النتائج. وفي هذه البيئة تُستثمر الطاقات في حل المشكلات وصناعة القيمة.

وتبرز قيمة هذا النموذج حين نراه في أمثلة عالمية تحولت فيها الثقة إلى ممارسة ملموسة. في تويوتا، يوجد مبدأ شهير يمنح أي موظف الحق في إيقاف خط الإنتاج إذا اكتشف خللاً. قد يبدو الأمر جريئاً، لكنه في الحقيقة يعكس فلسفة عميقة: الجودة مسؤولية الجميع، وقرار الحماية ليس حكراً على الإدارة. هذه الثقة لا تعمل إلا لأن المنظمة بنت حولها تدريباً ومعايير واضحة، فتحولت إلى أداة للتميّز لا مصدراً للفوضى.

وفي مايكروسوفت، اتخذت الثقة شكلاً ثقافياً، حين أرادت الشركة أن تُنعش قدرتها على الابتكار، ركزت على بناء عقلية التعلم المستمر والتمكين، بحيث يشعر الموظف أن التجربة ليست مخاطرة وجودية، وأن الخطأ ليس نهاية بل مادة للتطوير، الثقة هنا أصبحت شرطاً نفسياً لإطلاق الأفكار، وجسراً بين القدرة الفردية والهدف الجماعي.

والميزة الأعمق للقيادة بالثقة أنها تُعيد تعريف المساءلة بشكل راقٍ. فهي لا تلغي المحاسبة، بل تجعلها عادلة، قائمة على النتائج والمعايير. كما أنها تمنح الفرق أمانا نفسيا يسمح لهم بقول الحقيقة مبكرا، بدل إخفاء المشكلات حتى تتضخم. وحين تصبح الحقيقة سهلة، يصبح الإصلاح أسرع، وتصبح المنظمة أكثر مرونة في مواجهة التحديات.

في النهاية، القيادة بالثقة ليست وصفة أخلاقية، بل خيارا استراتيجيا، إنها تُنتج فرقاً أسرع في القرار، أعلى في الجودة، وأعمق في الانتماء، وفي زمن تنافسي شديد، تصبح الثقة ليست فقط أسلوباً للقيادة، بل طاقة تشغيل تصنع الفارق بين منظمة تعمل، ومنظمة تتقدم.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف