الأخضر الإبراهيمي يتقاعد
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
بورتريه
فارس المهام المستحيلة يترجل أخيراً
الأخضر الإبراهيمي يتقاعد في نفس يوم مولده
وبنهاية هذا العام يترجل الدبلوماسي الداهية، صاحب الابتسامة اللصيقة بملامحه، والهدوء الأسطوري الذي يسكن حركاته وسكناته، والخبرات العريضة التي تراكمت لديه من سلسلة أزمات الكونغو إلى تعقيدات المسألة اللبنانية، ومن لوغاريتمات القضية الفلسطينية إلى وعورة أفغانستان، ومن جبال اليمن إلى بلاد النهرين، ومن القاهرة إلى لندن وصولاً إلى نيويورك، حتى أنه أصبح أحد أعلام الدبلوماسية الدولية، وعنواناً يلجأ إليه المكلومون والمأزومون ومن امتدت النيران إلى مخادع ذويهم.
ولعل المحطة الأجمل في حياته تلك التي جلس فيها على مقاعد المدعوين في ضيافة الأسرة الهاشمية ليلة الاحتفال بزفاف كريمته ريم إلى الأمير علي، قائد الحرس الملكي الخاص بحماية الملك، وابن الرحل الملك حسين من زواجه الثالث بالملكة علياء، التي توفيت في حادث تحطم مروحية شهير في العام 1977.
وريم زميلة صحافية بدأت مشوارها مع محطة CNN عام 1998، وعلى خطا والدها شاركت في تغطيات صحافية في المناطق المشتعلة كحرب كوسوفو، وحرب العراق، وتفجير المدمرة الأميركية كول في اليمن وغير ذلك من التغطيات الخطرة، لكن من شابه أباه فما ظلم.
وعبر رحلة طويلة استمرت زهاء نصف قرن في عالم الدبلوماسية ظل الإبراهيمي شخصية فريدة، حين كان مجرد دبلوماسي يمثل بلاده في عدة عواصم عربية وغربية، وحتى أصبح ممثلاً خاصاً للأمين العام للأمم المتحدة، فقد رشحته مؤهلاته الشخصية ليكون "رجل المهام المستحيلة"، وبالطبه فهذا ليس عنواناً لقصة بوليسية مثيرة، بل هو تعبير دقيق للمهام التي تصدى لها الرجل في شتى أنحاء الكون، من لبنان إلى هايتي، ومن أفغانستان إلى العراق، كما تدرج في سلك الدبلوماسية من سكرتير إلى ممثل لبلاده في جامعة الدول العربية، بالإضافة إلى مهام سفير الجزائر لدى القاهرة التي أمضى بها ثمانية أعوام، شهدت كثيراً من الأحداث الهامة في حياته سواء على الصعيد المهني أو الشخصي، ففي القاهرة اقترب من جمال عبد الناصر ورفاقه ولعب دوراً هاماً في كواليس تأسيس منظمة عدم الانحياز، وفي القاهرة اقترن برفيقة عمره السيدة مليكة باتشيتشrlm;,rlm; وهي سكندرية المولد، من أصول بلقانية,rlm; وفي القاهرة أيضاً أنجب ابنه البكر صلاح، الذي أطلق عليه هذا الاسم تيمنا بالقائد الكردي صلاح الدين الأيوبيrlm;,rlm; ثم رزق بابنه الثاني الذي أطلق عليه اسم عبد الكريمrlm;,rlm; تيمنا بالزعيم المغربي عبد الكريم الخطابيrlm;، وفي القاهرة ذهب إلى أبعد حد في الاندماج بمجتمعها، ولم تقتصر علاقاته بالنخب الثقافية والسياسية، بل امتدت إلى الأحياء الشعبية التي كان يمضي سهراته بمقاهيها في أحياء سيدنا الحسين والقلعة والسيدة زينب,rlm; ووسط البلدrlm;,rlm; لدرجة أن المخابرات المصرية يومها حذرته من أن هذا قد يعرضه للخطر، خاصة وأنه دبلوماسي رفيع وسفير لبلاده، لكنه لم يكترث لذلك حتى نبهه عبد الناصر ذات مرة إلى ضرورة توخي الاحتياطات الكافية لحماية أمنه الشخصي، غير أنه اكتفى بابتسامته الهادئة المعهودة قائلاً إنه يشعر بالخوف أكثر وسط الساسة والدبلوماسيين، وليس وسط "أبناء البلد"، فابتسم عبد الناصر وانتهى الأمر أو الوشاية الاستخبارية التي ربما كانت خلفها شكوك ما حيال اعتياده ـ وهو السفير ـ السهر في المقاهي الشعبية ولعب النرد مع البسطاء الذين لا يعرفون من يكون أو ماذا يعمل، خاصة وأنه يجيد اللهجة المصرية كأحد القاهريين المولودين في حواريها والذين تربوا في أزقة أحيائها الشعبية.
أيام قاهرية
ومن منطقة مشتعلة، إلى بلد مأزوم، إلى حرائق الحروب الأهلية، ظل الأخضر الإبراهيمي يحمل مضخات المياه المحمولة على قاطرة الجامعة العربية تارة، أو طائرة الأمم المتحدة تارات ليخمد الحرائق هنا وهناك، فالدبلوماسي المخضرم الذي عمل في السلك الدبلوماسي فور إنهاء دراسته القانون والعلوم السياسية في باريس، إذ كانت أولى مهامه في آسيا (1956 ـ 1961) بتكليف من الثورة الجزائرية التي انخرط فيها منذ بداياتها مطلع الخمسينيات، وهناك التقى سوكارنو وأعجب به وما زال يعبر عن مدى إعجابه بشخصيته في كل مناسبة، وبعد استقلال الجزائر عام 1962 أصبح الإبراهيمي مديرا عاما لوزارة الخارجية (1962 ـ 1963)، وما لبث أن أصبح سفيرا لبلاده في مصر والسودان (1963 ـ 1971) فضلاً عن تمثيل بلاده بالجامعة العربية، وهنا تجدر الإشارة إلى أمرين : الأول أن القاهرة حينها كانت عاصمة لها أهميتها الخاصة إقليمياً في زمن الثورات والمدّ القومي، وبالتالي فقد كان إقدام أي دولة عربية على ترشيح شخص ما لتمثيلها في القاهرة يعني اعترافاً صريحاً بتميزه دبلوماسياً، أما الأمر الثاني فهو تلك المدة الطويلة التي أمضاها بالقاهرة وامتدت زهاء ثمانية أعوام، التي شكلت أبرز محطات شهدتها مصر بل والمنطقة بأسرها، من نشوة الثورة إلى النكسة مروراً بأحلام الوحدة ومساندة حركات التحرر ونشأة حركة "عدم الانحياز" وغيرها، وهو ما أكسب الإبراهيمي زخماً كبيراً في خبراته الدبلوماسية وعلاقاته، التي انتقلت من الساحة الإقليمية إلى ملعب دولي بالغ الأهمية هو العاصمة البريطانية لندن التي انتقل إليها عام 1971 سفيراً لبلاده هناك سنوات طويلة قبل أن ينتقل منها مباشرة إلى القصر الجمهوري في الجزائر مستشاراً ووزيراً حتى تعيينه في منصب الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية وهو المنصب الذي ظل يشغله من العام 1984 حتى العام 1991.
محطات ومهام
والدبلوماسي الجزائري الذي لعب أدواراً محلية وإقليمية ودولية بارزة، وكانت مساهماته جد خطيرة سواء في العلن أو وراء الكواليس في إخماد عدة حرائق في كل حدب وصوب، فقد اضطلع بوساطة بالغة الصعوبة في إنهاء الحرب الأهلية في اليمن عام 1994، كما لعب دوراً بارزاً في المصالحة اللبنانية عام 1989، حين شارك في إنجاز اتفاق "الطائف" الذي وضع حدا للحرب الأهلية اللبنانية كممثل للجنة العربية الثلاثية (السعودية والمغرب والجزائر) التي شكلتها قمة الدار البيضاء في ذلك العام، فقد تمكن بمهارته السياسية من جمع الأطراف المتنافرة المتناحرة إلى طاولة مفاوضات، والخروج بالحل المناسب المتمثل بالعودة من شرعة الطائفة الى شرعية الدولة.
وفي العام 1997 تمكن في واحدة من أصعب مهامه كما يصفها من إقناع رئيس زائير الراحل موبوتو سيسي سيكو بترك بلاده قبل أن تغرق أكثر في الفوضى، ذلك لأن إقناع دكتاتور من طرز سيسي سيكو بترك الحكم لم تكن مهمة محفوفة بالورود والرياحين. كما كان الإبراهيمي أيضاً أحد أبرز مهندسي الاتفاق بشأن إعلان الدولة الفلسطينية في العام 1983.
وتصدى الإبراهيمي لمهمة ثقيلة في أفغانستان، وبتعبير أدق مهمتين، الأولى كانت إبان حكم "حركة طالبان" المخلوعة وامتدت من 1997 إلى 1999، أما الثانية فكانت عقب سقوط الحركة، واستمرت زهاء ثلاثة أعوام، انتزع خلالها من "اللوياجيرغا" دستورا مهد الطريق أمام الأفغان كي يخوضوا أول انتخابات لهم منذ ربع قرن.
وكانت مهمة الإبراهيمي الأخيرة وربما الأكثر خطورة وحضوراً، تلك التي اختار أن ينهي بها حياته المهنية، حين اضطلع بها بعد إلحاح من واشنطن ليتصدى لمهمة إعادة ترتيب البيت العراقي بعد سقوط صدام حسين، إذ ظل عدة شهور يرتب لحكومة انتقالية عام 2004 ، ولعل كوفي أنان الأمين العام للأمم المتحدة لم يكن يجامله مطلقاً حين أثنى عليه وأعرب عن امتنانه له "لشجاعته ومشورته وحكمته وإخلاصه"، رغم أن الإبراهيمي سبق أن أثار غضب أنان عام 2004 عندما وصف إسرائيل بأنها "سم في المنطقة، وأن سياستها الأمنية العنيفة، وإصرارها على احتلال المزيد من الأراضي الفلسطينية أدت إلى تعقيد مهمته في العراق".