أخبار

شبابٌ زجتهم الحربُ في أُتونِ الصحافة

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

مهمتهم مرافقة الاعلاميين الأجانب و الترجمة
شبابٌ لبناني زجتهم الحربُ في أُتونِ الصحافة

حسن المصطفى - موفد "إيلاف" إلى لبنان: في كثير من الأحيان تكون المغامرات في بواكيرها صدفا تلتقي سوية، أو نكتة، أو تحدٍ ما، وقد تكون حاجة أيضا. باختلاف نوعها، وكيفية طرقك لها، لا تجرك مغامرتك إلا لأحد طريقين: نجاح، أو هزيمة. كورقة يانصيب تشتريها من البائع المتجول في شارع الحمرا، تراهن عليها بين صحبك، فيخيب الرهان أو يصيب. متصفحة مواقع الإنترنت، ومتحدثة مع الصديقات على الماسينجر، كانت تجلس فاديا إبراهيم، وأمامها شاشة الحاسوب، تطاردُ الأسطر الشاردة. يتناهى إلى مسمعها صوت صحافيين يتحدثون عن نيتهم الذهاب في جولة لتغطية القرى والمدن التي طالها القصف الإسرائيلي. الصحافيون المحترفون، وبالرغم مما يمتلكون من خبرة مهنية، إلا أن الجغرافيا تخونهم، ينقصهم معرفة المكان وتفاصيله، خصوصا أن الطرق الرئيسة مقطوعة، بحيث يضيع من لا يعرف كيف "يزورب" بين القرى، ليصل لهدفه المبتغى.

لذا راحوا يبحثون عن دليل يلازمهم في ترحالهم. الفكرة في بداياتها راقت لفاديا، ووجدت فيها مصدر دخل جيد، وغير مكلف، سيجعلها تؤمن حاجياتها اليومية في الوقت الذي فقد فيه آلاف الناس مصدر رزقهم. أعلمت الصبية الصحافيين الأجانب عن قدرتها على مساعدتهم، وإمكانية مرافقتهم جنوبا وبقاعا، نظير مبلغ مادي متفق عليه، وتكفلهم بتأمين السيارة ووقودها.

الصحافيون لاقت الفكرة استحسانهم، خصوصا أن المبلغ الذي طلبته فاديا كان زهيدا، 80 دولارا أمريكيا في اليوم، في الوقت الذي يحصل فيه أقل واحد منهم على 500 دولار يوميا.

جردة الحساب المادي، وجدتها خريجة الجامعة اللبنانية، والحاصلة على إجازة في علم الاجتماع، العام 2001، مبلغا زهيدا جدا، بل، لا قيمة له، مقارنة بالمخاطر العدة التي تعرضت لها طيلة الأيام التي رافقت فيها المراسلين والصحافيين الأجانب، والذين تعددت جنسياتهم، بين البلجيكية، والأسترالية، والألمانية.. وسواها.

إجادة فاديا للغتين الإنجليزية، والفرنسية، سهل عليها عملية التواصل مع فريق الإعلاميين، وكونها لبنانية سهل عليها كثيرا التواصل مع الناس على الأرض وفي القرى التي يزورونها، ومنحهم ثقة أكثر، وأريحية في الحديث والتعاطي مع العناصر الأمنية، سواء تلك التابعة للدولة أو الأحزاب. كما أن دراستها الجامعة هي الأخرى، جعلت لديها قدرة على التطور يوما بعد آخر، ونمو شيء من الحس الصحافي، الذي كانت تفتقد لأبجدياته، كونها حديثة عهد بهذا الحقل.
بداية الغيث، كان مشوارا إلى البقاع، وتحديدا إلى مدينة بعلبك، خزان الامتداد الشعبي لحزب الله. الطريق عبر جسر المديرج، وشتورة، لم تكن سالكة، وكانت الطائرات الإسرائيلية تلاحق الشاحنات وتقصفها، لتصيب معها السيارات القريبة منها. إذن، فالجهد ليس مرتبطا بطول الطريق وعسورته، بل بأمنه المهدد أيضا.

كان الانطلاق من الصباح الباكر من شارع الحمرا ببيروت، عبر أنطلياس، ومن ثم بكفيا، والمتين، فظهور الشوير، وصولا إلى زحلة، ومنها إلى بعلبك. "الطريق لم تكن تشهد زحمة سير، وعدد قليل من الشاحنات تجرأن على المغامرة والسير، فيما نحن نسير بسرعة متجاوزين أي "كميون" خوفا من أن نقصف ونحن بالقرب منه" تقول فاديا، مضيفة "كنا نشاهد بين مسافة وأخرى عددا من السيارات المحترقة، أو الشاحنات المقصوفة، وفيما نحن ماضون نحو البقاع، سمعنا خبرا في الراديو، يفيد بتعرض بلدة "رياق" لغارات وهمية، ساعتها دَبََ الخوف إلى قلوب من كان معي من الصحافيين، لكننا واصلنا طريقنا إلى بعلبك، لنزور رئيس بلديتها ونلتقي بعدد من أبناء المدينة".

زيارة بعلبك والحديث مع أهلها، كانت بداية ما تعلمته فاديا من أبجدية الإعلام، مستوقفة عند نوعية الأسئلة التي يطرحها مرافقوها، وطريقة إجابة الأهالي عليها، ليكون الدرس الأول الذي ستتبعه دروسٌ أخرى.

الرحلة الثانية كانت إلى الجنوب. الجنوب الذي يضم قرية فاديا "عيناتا"، القرية الصغيرة الواقعة في قضاء بنت جبيل، حيث الدمار والخراب الهائلين، جراء القصف الإسرائيلي العنيف على تلك المناطق.

أدارت فاديا محرك السيارة، متجهة نحو عاصمة الجنوب صيدا. الطريق السريع كان مقطوعا بسبب الجسور المهدمة، والطريق الساحلي لم يكن في كل مناطقه سالكا، فقد امتلأ بالحفر، وتناثرت وسطه الأتربة والأحجار، جراء القصف المتواصل. ما كان يقلق فاديا ومن معها طوال الطريق، هو الغارات المتواصلة التي تصلهم أصواتها، وخصوصا كلما اقتربوا من المكان المتعرض للقصف، فيما الدخان المتصاعد، والنيران المشتعلة في معمل "الجية" ماثلة أمامهم، وكأنها النار المقدسة التي لا تنطفئ.

بعد أن وصل الجميع إلى ساحة "النجمة"، وسط صيدا، استفسرت عن الطريق إلى صور، لتبدأ المرحلة الأصعب. فصيدا التي كانت تعج بالنازحين الجنوبيين، لم تتعرض للقصف سوى مرات محدودة جدا، فيما كانت القنابل تنزل تباعا على صور. ما أن وصلت فاديا إلى مشارف صور، ودخلت المدينة، إلا وتراء لها حجم الدمار، وانبعثت إلى داخل رئتاها رائحة البارود الممزوجة بالموت. تروي فاديا "لم يكن الوضع في صور طبيعيا. كان أكثر بكثير مما شاهدته في البقاع. في البداية لم أتمالك نفسي وبكيت من هول ما شاهدت. خصوصا أنني شاهدت إحدى الجثث ملقية في سيارة ولم تنتشل بعد منها"، مضيفة "غضبت كثيرا في داخلي من هذه الجرائم الإسرائيلية، وصرت أتحدث بعصبية إلى الصحافيين، وأطلبهم بتصوير الدمار ونقل الحقيقة. لم أستطع تحمل هذه المشاهد".

الصحافيون الغربيون، وبنظر فاديا "لهم وجهة نظرهم الخاصة للحرب. فهم ليسوا بعرب ولا مسلمين. لكن وجودي معهم، أرى أنه ساعد على أن أوصل لهم حقيقة ما يجري، بعيدا عما يروج له الإسرائيليون. فكوني لبنانية سهل عليّ كثيرا أخذهم للحديث مع العائلات المهجرة، والأماكن المقصوفة، ولقاء المصابين في المستشفيات، وجميعهم مدنيين مسالمين، وليسوا بعسكريين أو عناصر من المقاومة".

الحدث الذي لا يمكن لفاديا نسيانه، هو زيارتها للضاحية الجنوبية لبيروت. فقبل دخول قرار وقف العمليات الحربية حيز التنفيذ، ببضعة أيام، قصفت الطيران الإسرائيلي مجمع "الإمام الحسن"، الذي يضم 11 عمارة سكنية، لتذهب هي وبرفقة الصحافيين إلى هناك لتغطية الحدث، وأخذ صور للموقع. ما أن وصلت هناك، ما هي إلا دقائق، إلا وترى من كان هناك من إعلاميين يتراكضون مسرعين، مغادرين المكان، دون أن تعلم ما هو السبب، لم تسمع إلا صوتا يصرخ فيها طالبا منها الخروج وبسرعة لأن الطيران الإسرائيلي عاد للتحليق ثانية، دقائق معدودة، والمكان يقصف ثانية. دقائق صغيرة عصمت ابنة الثلاثة والثلاثين ربيعا من مغادرة الحياة.

في ذات اليوم الذي توقفت فيه العمليات الحربية، ذهبت فاديا إلى الجنوب مرة ثانية، لتزور بنت جبل، ومارون الراس، ودبل.. وباقي المناطق المتاخمة للحدود. أمتار كانت تفصلها هي ومن معها عن الدبابات الإسرائيلية والجنود المدججين بالعتاد.

أيامٌ تتالت حملت الكثير من الألم والمغامرة. وتجربة قد تكون بالنسبة لفاديا إبراهيم نافذة للدخول في عالم الصحافة، عالم وجدت فيه الكثير من الإثارة والمتعة. لكن أهم ما اكتسبته فاديا من وجهة نظرها، أنها لمست بيديها الاثنتين بشاعة الحرب وعذاباتها، بشاعة تتمنى أن لا تعود ثانية لتشوه وجه لبنان الجميل.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف