صحافي أميركي يروي بطولاته بين خيام المعتصمين في بيروت
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
إيلاف: بعدما حث حزب الله على الاحتجاج لإسقاط الحكومة اللبنانية المنتخبة نصب عدة آلاف من المتظاهرين خيامهم وسط المدينة. وكانوا بداية حاولوا الاستيلاء على مكتب رئيس الوزراء فؤاد السنيورة في السراي الذي يعود إلى العهد العثماني، لكن السنيورة حذر حزب الله من أنه إذا تم الاستيلاء على مكتبه فإنه لن يتمكن من السيطرة على "شارعه". بمعنى أنكم إذا استوليتم على المنشآت الحكومية، فإن المسلمين السنة في لبنان سيقتلونكم. علم حزب الله أن ذلك صحيح، فتراجعوا. لكن احتلال حزب الله للمناطق الحيادية من المدينة يستمر حتى بحلول العام 2007.
مئات الخيام نُصِبت في المنتزهات والمواقف والساحات، وكان معظمها مصنوع من قماش القنب الأبيض. التقطت بعض الصور ولم يمنعني أحد.
إحدى مجموعات الخيام نُصِبت مقابل مسجد الحريري، وكانت جميعها تتشح بالسواد. تساءلت ما الذي يميز هذه الخيام السوداء؟ سرت قليلاً، ورفعت الكاميرا لألتقط صورة.
فاجأني خمسة من رجال حزب الله وأحاطوا بي، ثم دفعوني بعيداً عن الخيام. يقول توتن أنه اتُهِم بالتجسس مرات عديدة بينما كان في لبنان، لذلك لم يفاجئه أن يظن رجال حزب الله به ذلك. يشعر كثير من اللبنانيين بالخوف لأسبابهم الخاصة، لكن لا أحد يشعر بالخوف كما يشعر به حزب الله، كما يقول مايكل توتن.
صحت فيهم: "أنا صحافي."
فقالوا: "لا, لا, لا." ودفعوني بعيداً. ثم توجهت إلى ممر للمشاة، وبعدها تركوني أسير وحدي. كذلك الوضع، وربما أسوأ، عندما التقيت بأفراد من ميليشيا حزب الله سابقاً.
في المرة الأولى التقيت بحسين نابلسي، مسؤول في علاقات حزب الله بوسائل الإعلام، وكان ودوداً جداً. لكنه هددني لاحقاً بتصرف عنيف لأني أطلقت دعابة عن حزب الله في مدونتي. وفي مرة أخرى احتجزني حزب الله ساعتين لأنهم اشتبهوا في انتماء أحد زملائي المصورين لليهود. كما أوذي صديق صحفي لأنه كتب مقالاً غير مسيء إطلاقاً عنهم في مجلة أميركية يسارية. كان كريس أولبريتن، الذي يعمل أحياناً لمجلة التايم، كتب ما يلي في مدونته خلال حرب يوليو (تموز) الماضي: "حزب الله يطلقون الكاتيوشا، ولكني لا أطيق الحديث كثيراً عنهم. فحزب الله لديه نسخة من جواز سفر كل صحافي، وكانوا تشاجروا مع عددٍ منا وهددوا واحداً."
كذلك يتعامل حزب الله مع الصحافيين الغربيين. أشعر بالذهول من أن كثيراً من الصحافيين لا يذكرون ذلك في مقالاتهم، لكن معظمهم لا يكتبون رواياتٍ عما يواجهونه، فقوانين الصحافة العامة لا تسمح لهم بالكتابة عن مثل هذه الحوادث. وبالرغم من مرور سنوات على بدء حزب الله اختطاف أو إيذاء الصحافيين الغربيين، إلا أن منهم من يخشى إثارة غضب ميليشيا وكيل إيران التي تصنفها الولايات المتحدة كمنظمة إرهابية. وكان حزب الله أعلمني أني مدرج في القائمة السوداء لديهم (بمعنى أنهم لن يجروا معي مقابلات) بسبب ما كتبته عنهم في الماضي.
بعض الصحافيين لا يريدون أن يحطموا جسوراً يستطيعون الوصول عبرها، لكني شخصياً لا أكترث لذلك.
مشيت في الطريق متعمداً أن أكون أمام مرأى الرجال الذين وقفوا في وجهي، ثم جلست على جانب الطريق أمام جنود لبنانيين مدججين بالسلاح، وشرعت في كتابة ملاحظاتي باهتمام بالغ.
كنت أعلم أنهم لن يفعلوا لي شيئاً، ولكني أردتهم أن يعلموا أن تخويفهم وتهديداتهم لا تكسبهم سوى السمعة السيئة. كما ينبغي أن يدرك هذا الدرس الإسرائيليون الذين يضايقون الصحافيين ويستجوبونهم بفظاظة في مطار بن غوريون.
ولكن يبدو أن أحد رجال حزب الله أدرك ذلك، فجاء بخطى ثقيلة إلي. سألته ماذا يريد. أشار إلى الكاميرا ثم تكلم بكلامٍ لم أفهمه وأشار إلى الخيام السوداء.
قلت: "نعم، نعم. أنا أعلم." وواصلت كتابة ملاحظاتي.
فقال لي: "لا."
قلت له: "ماذا؟" بعدما ألح علي.
فإذا بمجموعة من ستة فتيان مراهقين أبصروا المشادة، فجاءوا لرؤية ما يحدث. وتطوع أحدهم للترجمة.
قال: "إنه يقول لك لا بأس في أن تلتقط الصور."
فقلت: "لا بأس؟" ونبذت كل عداوتي جانباً.
قال فتى آخر: "نعم، نعم."
قلت: "شكراً لكم."
ثم قال فتى ثالث: "تعال معنا، سنطلعك على المكان."
إنها ليست تلك الصورة المثيرة للاهتمام، ودون أية قيمة حقيقية. كيف يكلف حزب الله أنفسهم السمعة السيئة مقابل منع نشر صورة كهذه أمام الملأ، وخاصة أنه كان بإمكاني نشرها بأي حال من الأحوال.
ولكن عندما رآني أحد رجال الأمن ألتقط الصورة هرع إلي مسرعاً، وصرخ معترضاً: "لا!"، ثم قال: "كم صورة التقطت؟"
قلت: "واحدة فقط."
فصرخ قائلاً: "امسحها الآن، لقد أخبرناك ألا تلتقط الصور."
من هؤلاء الذين يريدون أن يملوا علي ما أفعل؟ لبنان بلد حر، وحزب الله لا يمثل الحكومة، وكنت ألتقط الصور من موقف عام.
فقلت له: "لا، لقد أخبروني أنه بإمكاني التقاط الصور." ونظرت إلى رفاقي منتظراً مساندتهم.
قال أحد الفتيان للرجل: "نعم، نعم، لا بأس."
لكن الرجل قال: "لا، امسحها الآن."
فقلت: "حسناً. سأمسحها بشرطٍ واحد... إن أخبرتني لماذا لا أستطيع التقاط الصور. ما الذي تفعلونه هنا وتريدون إخفاءه؟"
والحقيقة هي أني كنت سأمسحها دون شروط، ولكني أردت أن أعلم ما سيقول عندما أسأله عن سبب خوفه. وبالطبع لم يكن لديه الجواب ليرد.
فقال: "لا عليك." ثم استدار وذهب إلى إحدى الخيام.
إن كانوا يظنون أني جاسوس فإن سلوكهم أخبرني بكل ما أردت معرفته، فمن الواضح أن تلك الخيام هي التي تستضيف القيادة والنخبة، ولذلك يخشون ظهورها.
ذهبت مع الفتيان الذين كانوا معي كمرشدين ومترجمين ومدافعين إلى القسم الأكبر من المخيم حيث يسكن الجميع في خيامٍ بيضاء.
سألتهم: "إلى أي حزب تنتمون؟"
قال الفتى الدليل: "حزب الله."
"هل تعرف حسن نصر الله؟ إنه بطل."
فسألت: "لم هو بطل؟"
"لأنه يقاوم الإسرائيليين."
فسألت: "هل جميعكم من حزب الله؟"
فقال أحدهم: "نعم، نحن جميعنا مع حسن نصر الله." وقالها بأسلوب وكأنه يظن أني أشاركهم أفكارهم، على الرغم من علمهم بأني أميركي. على الأقل كانوا يظنون أني لا أمانع كونهم يؤيدون حسن نصر الله.
فسألت: "ما الذي تأملون أن تحققونه؟"
فقال أحدهم: "نريد أن يرحل السنيورة."
فقلت: "أعلم. لماذا تريدونه أن يرحل؟ ما الذي تريدونه من الحكومة ولا تستطيعون الحصول عليه بوجود السنيورة؟"
فقال أحدهم: "الحرب."
وقال آخر: "نحن نريد الحرب."
فضرب أحدهم الثاني ضربة بسيطة على رأسه، وضحكوا.
لم أستطع التمييز ما إذا كان ذلك يعني أنهم سئموا الحروب، أو أنه يُفترض بهم ألا يصرحوا بذلك أمام صحافي أجنبي. فقد التقيت بمؤيدين لحزب الله من قبل لا يرغبون بمزيد من الحروب مع إسرائيل، بينما يعتقد بعضهم أن إسرائيل ستهاجم مهما يكن من أمر، وأن حزب الله هو قوة الدفاع الوحيدة في لبنان.
قال الفتى الذي كان يبدو وكأنه قائدهم، وهو أكثرهم نضجاً واتزاناً: "نريد أن يتوحد لبنان وأن نطبق بالديمقراطية."
قلت: "أنتم تطبقون الديمقراطية، ولكنكم لم تربحوا عدد مقاعد في البرلمان كما كنتم تريدون. لكن ذلك لا يعني أنكم لا تطبقون الديمقراطية، إذ يمكنكم الحصول على كل ما تريدونه من طريق الديمقراطية."
قال أحدهم: "الحكومة الأميركية تسيطر على السنيورة. إنهم يتدخلون في شؤوننا."
فسألت: "كيف؟"
فقال: "أميركا تساعد إسرائيل ضد لبنان، وتبيعهم الأسلحة."
قلت: "ماذا عن سوريا؟ أميركا ساعدت لبنان في مواجهة سوريا."
قال آخر: "قتل بوش كل أولئك السياسيين لأنه لا يريد أن يعم السلام لبنان."
فسألت: "ولماذا لا يريد بوش أن يعم السلام لبنان؟"
"لا أعلم."
فقلت: "لا يريد الأميركيون حرباً في لبنان، إنها لن تخدم مصالحنا ولا مصالحكم. هل تعتقدون أن الأميركيين يريدون إثارة الفوضى في لبنان؟"
"نحن لا نكره الشعب الأميركي، بل الحكومة."
قلت: "حسناً. لماذا إذن يردد حسن نصر الله (الموت لأميركا)؟"
"هو يقصد الموت للحكومة الأميركية."
سألت: "لماذا لا يوضح ذلك؟"
"إنه يفعل."
قال الفتى القائد: "أريد الذهاب إلى أميركا. أنا أحب أميركا وأريد أن أعيش فيها. أميركا بلد غني وحر، وأنا أريد أن أصبح غنياً وحراً أيضاً."
أعتقد أن هذا الفتى كان صادقاً، فالسياسة التي يفكر فيها هي نتاج مدارس حزب الله ومجتمعه ورفاقه. إذ أن السياسة في الشرق الأوسط ليست أمراً شخصياً كما هي الحال عليه في الغرب، ويعود ذلك إلى حدٍ ما إلى أن العرب اعتادوا أن تفرض عليهم السياسة من قبل الأقوياء. فالسياسيون عادة فوق المحاسبة، وبعيدون عن إرادة الشعوب. وهم يعتقدون أن الحال كذلك في الغرب أيضاً.
إن أكثر ما يمر عبر السياسة في لبنان هو العداوات الطائفية، وهو السبب الذي يدعو معظم المسيحيين والسنيين والدروز للوقوف في وجه حزب الله. فحزب الله ميليشيا شيعية مجهزة بالسلاح، الميليشيا الفريدة من نوعها في المنطقة. إذ ليس للمسيحيين جيش خاص بهم، وليس للسنة جيش خاص بهم، وليس للدروز جيش خاص بهم. إن مجرد وجود حزب الله يعارض القانون اللبناني، عدا عن ذكر القانون الدولي. كما أن وجودهم كجيش يتلقى دعماً أجنبياً يخرق ميثاق مشاركة القوى الذي يعود تاريخه إلى تاريخ تأسيس الجمهورية.
بعد أن ودعت الفتيان ذهبت إلى مركز بيروت، ولكن كل المحال كانت مقفلة. كان الجيش يحيط بجميع الطرق المؤدية إلى وسط المدينة بنقاط التفتيش والأسلاك الشائكة. لا يمكن التأكد من أن حزب الله وحلفاءه لن يشوهوا الجزء من بيروت الذي أعاد بناءه وأنعش الحياة فيه آل الحريري، الذين ينظر إليهم حزب الله على أنهم أعداؤهم السنيون.
اقتربت من أحد الجنود اللبنانيين المراقبين، وسألته: "هل يمكنني أن ألتقط صورة؟"
فوضع يده على صدره، وقال: "لا، رجاء. ليس اليوم. أعتذر."
فقلت له: "لا بأس. شكراً لك."
لم يعلم الجندي السبب الذي دعاني إلى شكره، وهو أني فعلت لأنه تحدث إلي كإنسان عادي وكلبناني نموذجي، ودود وكريم ومهذب. فالتضاد بين اللبنانيين العاديين والمسؤولين في حزب الله أمر يفوق التصور. معظم الشعب اللبناني محترم بالفطرة بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية، ولكن أفراد حزب الله عدوانيون بالفطرة. إن أيديولوجيتهم أجنبية، مستوردة من الشرق، من النظام المتطرف في طهران. وإذا انتهى بهم الأمر حكاماً للبنان - وذلك يعني الحرب إن هم حاولوا - فسيصبح من الصعوبة بمكان تمييز لبنان.