أخبار

حقيقة استقلال كوسوفو

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

بقلم غراهام باولي: بقي الكثير من الأمور على حالها في البلقان إثر إعلان إقليم كوسوفو استقلاله عن صريبا في السابع عشر من شباط (فبراير) الماضي، إذ لا تزال المنطقة مساحة صغيرة وفقيرة ومغلقة تعد مليوني نسمة، وتتمزق بالضغائن العرقية وذكريات فظائع الماضي. إن التحدث عن "استقلال" في حالة كوسوفو، على الرغم من المسحة البطولية في الكلمة، هو بالفعل مبالغة. ذلك لأن كينونة الإقليم نفسها لا تزال تعتمد على وجود 16 ألف جندي من حلف شمال الأطلسي، للحفاظ على النظام ولردع أي أفكار انتقامية قد تراود القوميين الصرب أمثال الذين قاموا بأعمال شغب في بلغراد احتجاجاً على إعلان استقلال كوسوفو.

وفي الوقت عينه، نرى في خلفية هذا المشهد السياسي روسيا المستاءة، حليفة صربيا، وقد صرّح رئيسها المنتخب حديثاً دميتري ميدفيديف أمام العالم أن صربيا وكوسوفو لا يزالان يشكلان "دولة واحدة".

إلا أن أوروبا ترى أن هذا الاستقلال غيّر الكثير من المعطيات. فاجتمع وزراء الخارجية من 27 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي في العاصمة البلجيكية بروكسيل التي تبعد حوالى ألف وستمئة كيلومتر عن كوسوفو، ووافقوا على أن بعضهم على الأقل سيمضي قدماً ويعترف باستقلال الإقليم. وكانت في هذه الخطوة دلالة ضمنيّة على أن هذه الدولة الوليدة الصغيرة وغير الآمنة والفقيرة قد تنضم يوماً إلى الاتحاد الأوروبي- وقد يحصل ذلك في أفضل الظروف وأحسنها، بالتزامن مع أعدائها الشرسين في بلغراد.

وفي هذا الصدد، قال وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير المعروف بتفاؤله الذي لا يعرف الملل: "لا أدري في أي تاريخ أو سنة، لكن كوسوفو وصربيا ستكونان سوياً في الاتحاد الأوروبي".

هكذا انطلق كوسوفو في طريقه، التي ستكون لا شك طويلة ومليئة بمنعطفات مضلّلة، نحو انضمامه المحتمل إلى الاتحاد الأوروبي الذي أبصر النور هو الآخر بعد فظائع الحرب العالمية الثانية. عندها، كانت الفكرة من إنشاء الاتحاد الأوروبي إيجاد ترابط من أقوى ما يكون بين أبرز قوى أوروبا الغربية، ما يجعل من المستحيل تكرار تجربة الحرب المريرة.

ثبتت هذه الفكرة وتطورت، ولو بصورة متقطعة حتماً في السنوات القليلة الماضية، وتم توسيع نطاقها في العقد الأخير إلى أوروبا الوسطى والشرقية على أمل إرساء الدول المتنازعة التي كانت تحيط سابقاً بالاتحاد السوفيتي المنهار، في الاتحاد الأوروبي.
منذ تلك الفترة، فتحت القدرة على المشاركة في واحد من أكبر قطبين تجاريين في العالم أبواب النجاح الاقتصادي لبعض الدول التي تعيش في ظل دول منافسة لها عرقياً، والتي لربما كانت قد فشلت بمفردها، وأذكر في هذا الصدد إستونيا وسلوفانيا وسلوفاكيا، وإيرلندا أيضاً.

وأظهرت هذه النجاحات أنه في حال تخلت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي عن بعض من سيادتها لصالح سلطة يمتد نفوذها على قارة بأكملها قادرة على رعاية الدول الصغيرة وحمايتها، فقد يكون لأوروبا في نهاية المطاف السبيل لسحب السموم من النزاعات الإقليمية والسماح للدول الصغيرة بالتعايش بثقة مع القوى الكبرى.

واليوم دخل كوسوفو إلى الساحة، وهو أكثر ضعفاً من أسلافه، وتقدّمت معه فكرة الاتحاد الأوروبي خطوة إضافية إلى الأمام بما معناه أن مكانة أوروبا كقارة باتت من الثقل بمكان لدرجة أنه أصبح باستطاعتها إعادة تعريف مفهوم الدولة نفسه.

على الأرجح أنه بإمكان أوروبا حماية مناطق الحكم الذاتي حيث الجماعات القومية غير قادرة نتيجة لضيق نطاقها وضعفها على تشكيل دول مكتفية ذاتياً. لكن في نهاية المطاف، إن الآلام المُبرحة التي تخبطت بها مثل هذه الجماعات القومية، لدى وضعها تحت سيطرة دول أكبر منها عمدت إلى قمعها، هي التي أدت إلى بروز نزعة القتل الإبادي في القارة الأوروبية. وأظهر تفكّك يوغوسلافيا السابقة أن معادلة تقرير المصير التي دامت قرناً من الزمن -والتي أرغمت القبائل المعادية على الاتحاد لتحويلها إلى دول قابلة للعيش- قد فشلت.

والآن، عوضاً عن إعطاء الدول الصغيرة التي تنفصل عن بعضها بعضاً الفرصة لتأسيس نفسها، سيكون باستطاعة هذه البلدان النجاح- لكن كجزء من القارة الأوروبية برمّتها.

هذا هو المعنى الحقيقي لسيادة كوسوفو المحدود النطاق. ويأتي مع هذا الواقع وعد ضمني بأن صربيا، بصيغتها المصغرة والمتجانسة، قد تحصل في يوم من الأيام على الحماية والرعاية نفسها في حال قبلت بالتقيد بقواعد اللعبة التي تفرضها أوروبا.

قال تشارلز كوبشان، الأستاذ في الشؤون الدولية في جامعة "جورج تاون" وكبير أعضاء مجلس العلاقات الخارجية: "سبق للاتحاد الأوروبي وأثبت أنه بإمكانه تأدية دور المحرك الذي من شأنه تحويل أعداء سابقين إلى شركاء". وتابع قائلاً: "عمد العديد من الدول إلى تحسين سلوكها فقط لأنها كانت بحاجة إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وأعتقد أن هذا ما سيحصل في البلقان. لكن الأمر سيستغرق وقتاً أطول لأن الخلافات عميقة للغاية والانقسامات العرقية لا تزال قائمة وحية في أذهان الناس".

هذه هي وجهة النظر التفاؤلية، على الأقل. لكن هناك الكثير من الأسباب التي تدل على أن طريق كوسوفو باتجاه الاتحاد الأوروبي قد تكون طويلة.
ويشير السفير السابق للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة ريتشارد ش. هولبروك الذي أدى دور الوسيط لتوقيع "اتفاقية دايتون للسلام" سنة 1995 بغية إيقاف الحرب في البوسنة، يشير إلى أن أحد أهم المعطيات المقلقة إثر إعلان كوسوفو استقلاله هو دعم روسيا للقوى القومية المتشددة في صربيا ولموقف الحكومة الصربية إزاء إعلان الاستقلال، الذي وصفته بانتهاك للقانون الدولي.

أي بعبارة أخرى، تمثل روسيا، على عكس أوروبا والغرب، مستقبلاً بديلاً لصربيا كونها تؤيّد (في حالة صربيا أقله) الفكرة القائلة إن سيادة الأرض وعدم قابلية الانقسام مفهومين مقدّسين.

وقال هولبروك: "يمثل هذا الأمر تحدياً لحلف شمال الأطلسي وهو أيضاً دلالة على وجود مشكلة جديّة في العلاقات الأميركية-الروسية. وفي حال استخدم الروس نفوذهم لتعزيز النهج المعتدل في صربيا، لما كان هناك من مشكلة كبيرة. إلا أن الجهاز السياسي الصربي يشهد اليوم انقسامات عميقة، وهؤلاء القوميون المتشددون هم نفسهم الذين تسببوا بالحرب في التسعينات". وأضاف قائلاً: "إن كوسوفو غير قادر على العيش اقتصادياً إلا في حال أصبح جزءاً من منطقة اقتصادية إقليمية تشمل أوروبا الجنوبية والبلقان".

وطُرحت أيضاً أسئلة عما إذا الدول الأوروبية كافة هي مستعدة لاحتضان كوسوفو. وبالفعل، إثر إعلان الإقليم استقلاله، لم يكن كافة وزراء الخارجية الذين اجتمعوا في بروكسيل مستعدين للاعتراف به كدولة مستقلة، إذ أبدى كل من أسبانيا واليونان ورومانيا وسلوفاكيا وقبرص وبلغاريا عن رفضهم الإقدام على هذه الخطوة، خوفاً من أن ذلك قد يشجع الأقليات العرقية على السير على خطى كوسوفو.

ويقول توني جوتد، أحد أساتذة التاريخ الأوروبي في جامعة نيويورك: "لا بد من أنهم قالوا "نعوذ بالله من الشر". لقد اعترفنا بكوسوفو، فكيف عسانا رفض ذلك لكتالونيا أو لإقليم الباسك؟"

وبمعنى آخر، قد يبقى حلم كوشنير في نهاية المطاف مجرد حلم. إذ لا يزال الاتحاد الأوروبي في مرحلة استيعاب عملية التوسيع الأخيرة التي شهدها، وسط بعض الشكوك إزاء موقعه في عالمنا اليوم الآخذ في العولمة وبعض الأسئلة عن النطاق الحقيقي لحدود الاتحاد. آخراً وليس أخيراً، قد يطرح ضمّ كوسوفو إلى عضوية الاتحاد الأوروبي مشكلة إضافية ألا وهي أن هذا الإقليم، شأنه شأن البوسنة، هو ذات أغلبية مسلمة.

لكن مهما يكن من أمر، لا يزال يخّيم على أذهن الكثيرين في بروكسيل هاجس إخفاق أوروبا في تسوية الحروب في يوغوسلافيا في التسعينات، التي لم تطو صفحتها إلا بعد تدخل الولايات المتحدة عسكرياً. لذا، أياً تكن حظوظ كوسوفو في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فإن أوروبا تضخ أموالاً في الإقليم منذ فترة- 1,8 مليار يورو بين سنتي 1999 و2006- ويُتوقع إدخال 1,1 مليار يورو بحلول سنة 2010، بما في ذلك المدفوعات المخصصة لضباط الشرطة والقضاة لإعادة بناء الجهاز القضائي في كوسوفو الذي لطالما عان من فساد مزمن.

وقال بين وارد، المشرف على أعمال منظمة "هيومن رايتس وواتش" في البلقان: إنها أكثر عمليات حفظ السلام طموحاً في تاريخ أوروبا". وأضاف: "لقد أنفق الاتحاد الأوروبي أموالاً طائلة في هذه العملية. وثمة من يقول مجدداً في بروكسيل أن هذه هي فرصة جديدة لأوروبا، وثمة من يذكر التجربة السابقة ويعي تماماً للمخاطر المحتملة".

ومن الناحية العملية، يتعين بحسب جوتد أن تنضم بلدان أخرى من البلقان إلى الاتحاد الأوروبي قبل كوسوفو، لاسيما كرواتيا، والبوسنة، ومونتينيغرو ومقدونيا- لإيجاد صلة وصل حدودية مع باقي القارة الأوروبية، التي لم تتحقق من خلال صربيا. ويعلق البعض الآمال على احتمال انضمام صربيا إلى الاتحاد الأوروبي في حال وعدت ضمنياً بالابتعاد عن مسار القومية باتجاه التقاليد والقيم الأوروبية لقاء الترحيب بها في المجتمع الأوروبي.

إذا ثبُت كل ما سبق، قد تتكرر التجارب الناجحة التي طبعت العقد الماضي، عندما مهدت فكرة الاتحاد الأوروبي الطريق أمام التعايش السلمي بين أعداء سابقين. وبالفعل، تعيش سلوفاكيا اليوم إلى جانب هنغاريا على الرغم من مطالب الأقليات الهنغارية في سلوفاكيا. كذلك، فإن الجمهورية التشيكية وألمانيا متفقتان اليوم على الرغم من الذكريات الأليمة التي خلفها ما اقترفه هيتلر في تشكوسلوفاكيا قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، وطرد التشكوسلوفاكيين الألمان بعد ذلك.

وقال جوتد: "أوروبا ليست بعالم زهري يحب فيه الجميع بعضهم بعضاً". لبل على العكس، يعترف الأوروبيون بكراهيتهم المتبادلة". لكنه تابع قائلاً: "الضغينة لا تحقق أي مكاسب سياسية لأن أوروبا تسمو فوق هذه الاعتبارات. وبالفعل، لن تتمكن من الحصول على الكثير من المال من بروكسيل في حال كنت تبني سياستك على الكراهية العرقية".

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف