تركيا بين المحاكم والأعمال الإرهابية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
تواصل المداولات حول حظر الحزب الحاكم بتركيا بقلم: ماريا أباكوفا، معلقة "نوفوستي" السياسية
عرضت الجلسات الأولى في المحكمة الدستورية التركية التي تنظر في قضية حظر الحزب الحاكم، بالاقتران مع أكبر عمل إرهابي خلال السنوات الخمس الأخيرة، عرضت رئيس وزراء تركيا طيب أردوغان وبلده برمته أمام امتحان صعب. ويبدو كلا الحدثين نتيجة منطقية للجهود المضنية التي بذلتها أنقرة في محاولة هادفة إلى الجمع بين نهج التغريب الذي تتبعه تقليديا منذ عهد كمال أتاتورك والامتثال إلى قواعد الحياة العلمانية، من جهة، وميل قسم كبير من المجتمع إلى الأصول الدينية. وتلاحظ اتجاهات مشابهة أيضا في عدد من دول الشرق الأوسط المجاورة لتركيا حيث تتراجع العولمة الغربية أمام الأخلاقيات والسلوكيات الإسلامية.
"لقد كنا نكافح الإرهاب طوال السنوات الـ30 - 35 الأخيرة وسوف نواصل النضال حتى النصر النهائي" - بهذه الكلمات توجه أردوغان إلى الأمة أثناء نزوله الميداني إلى ذلك الحي في اسطنبول الذي هزه الانفجاران اللذان أوديا بحياة 17 شخصا وأصابا أكثر من 150 شخصا بجراح. واستطرد أردوغان قائلا وهو يخاطب حشدا من مئات المواطنين: "إن اليوم - هو يوم الوحدة".
ويعد هذا المشهد أبلغ دليل على مدى شعبية رئيس الوزراء الذي يتهم المدعي العام حزبه (حزب العدالة والتنمية) بانتهاك مبادئ التطور العلماني للبلد. وجدير بالذكر أن القوة المحركة خلف إثارة "قضية الحزب الحاكم" هي العسكريون الذين يتمسكون في هذا البلد تقليديا بالمبادئ العلمانية لنشاط الدولة.
وبالطبع، لن يسهل على المحكمة الدستورية أن تزيح الحزب الحاكم من الحلبة السياسية على ضوء مثل هذا التأييد الجماهيري علما أن قيادة الحزب تضم، علاوة على ذلك، رئيس الوزراء ورئيس الدولة. وبهذا الصدد لا نستطيع أن نتهرب من فكرة مؤداها أن العمل الإرهابي وقع في وقت مناسب للغاية!
حتى الآن لم يتحمل أي من الأطراف مسؤولية الانفجارين في إسطنبول. وتشتبه السلطات، كالعادة، في أن حزب العمال الكردستاني له ضلع في هذه الجريمة، فتورد أدلة على ذلك قائلة إن المادة المتفجرة التي استخدمت في العمل الإرهابي الأخير مماثلة لتلك التي يستخدمها عادة الأكراد في تركيا. بيد أن ممثلي حزب العمل الكردستاني يؤكدون أن حزبهم بريء تماما عن هذه الحادثة. مع العلم أن الأكراد عادة لا ينكرون ضلوعهم في الأعمال الإرهابية.
وهو أمر يبعث على الحذر، لاسيما وأن أجهزة الأمن التركية تشير إلى أنه أول عمل إرهابي "مزدوج" في البلد يكون فيه الانفجار الأول بمثابة "طعم" للضحايا الجديدة من المشاهدين والأطباء ورجال الشرطة. وتشير الجهات المعنية التركية أيضا إلى أن سلاسل الانجارات كهذه تنفذ، عادة، في الشرق الأوسط وبالأخص في إسرائيل. وبالنظر إلى ذلك لا تستبعد إمكانية تورط تنظيم "القاعدة" في الانفجارين. لاسيما فهذا التنظيم سبق وأن تحمل مسؤولية سلسلة من الأعمال الإرهابية تعرضت لها اسطنبول في نوفمبر عام 2003.
ومما يدعم هذا الاحتمال أن ثمة لـ "القاعدة" حجة لضرب تركيا التي تلعب دورا نشيطا في الآونة الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط وبالذات بتوسطها بين سوريا وإسرائيل وبين إيران والولايات المتحدة. ويمكن اعتبار تركيا، وبحق، عاملا من عوامل الاستقرار في المنطقة مثلما يعتبر تنظيم "القاعدة" عاملا من عوامل الفوضى.
ولكن إذا أصدرت المحكمة الدستورية حكما لغير مصلحة أردوغان فقد تفقد تركيا صفة ركيزة الاستقرار وقد تنشق إلى معسكرين يضم أحدهما أنصار النظام العلماني وثانيهما - مناصري تعزيز الأصول الإسلامية. ومعروف أن سكان الأرياف يتمسكون بأحكام الشريعة بنفس القدر من الغيرة الذي تعلن به النخبة في اسطنبول مبادئ الحياة العلمانية. وأصبح حزب العدالة والتنمية ضربا من العنصر الوسيط في المجتمع التركي لكونه يكفل لمن يفضل نمط الحياة الديني حقه في أن يحتفظ بهويته في كل الظروف. فعلى سبيل المثال تم رفع الحظر المفروض على ارتداء الحجاب في الجامعات. واستقبل أنصار قواعد الحياة العلمانية هذه الخطوة كتحد رغم أن أدروغان عمل بالذات ما توقع منه ناخبوه لا أكثر ولا أقل.
وفضلا عن ذلك تمكن رئيس الوزراء التركي على الرغم من وفائه للتقاليد الإسلامية وإدخال الدين في حياة البلد الاجتماعية، من الاحتفاظ بالعلاقات الودية مع الغرب وفي المقام الأول مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. بل وحظيت أنقرة بالإشادة من جانب واشنطن والتي وردت على لسان وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس التي قالت إنها في تأملاتها عن كيف يجب أن تكون الديمقراطية في الشرق الأوسط هي دائما تفكر في تركيا. كما يتطور الحوار بين بروكسل وتركيا وإن كانت المسافة البعيدة لا تزال تفصل تركيا عن تجسيد حلمها بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
وفي حال استقالة رئيس الوزراء (وأزمة حزبه) قد يختل ميزان القوى الهش في البلد. وقد تبرز إلى المسرح السياسي بدلا من أردوغان المعتدل عناصر إسلامية تتمتع بالتأييد التام من جانب تنظيم "القاعدة". وهذا لا يساعد قط على تعزيز الاستقرار في المنطقة بأسرها وفضلا عن ذلك يخيب أمل بلدان الشرق الأوسط بإمكانية التطور في "الطريق الثالث" الذي شقه اردوغان والمتمثل في الجمع بين التقاليد الإسلامية والقومية، من جهة، والقيم الأوروبية، من جهة أخرى.
ومع ذلك مازال رئيس الوزراء التركي يتمتع بفرصة البقاء في دفة الحكم. فمن غير المعروف أي قرار ستتخذه المحكمة الدستورية التي يمكن أن تكتفي بفرض غرامة فقط. ولكن حتى في حال حظر نشاط الحزب سوف يتحول كل نواب البرلمان المنتسبين إليه تلقائيا إلى نواب مستقلين ولن يفقد أحدهم مقعده في البرلمان باستثناء حفنة منهم قد ينسحب عليهم حظر ممارسة النشاط السياسي خلال فترة خمس سنوات. ولكن حتى في هذه الحالة سيشكل أنصار الحزب الأغلبية في البرلمان وسيتمكنون من تأسيس أي تكتل آخر تحت اسم جديد. وأخيرا، فحتى أسوأ السيناريوهات المتمثل في إبعاد اردوغان والرئيس عبد الله غل وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة لا يستبعد انتصار حزبهما تحت اسم آخر.
ونعيد إلى الأذهان أن حزب أردوغان حصد في انتخابات عام 2007 نحو 47 بالمائة من الأصوات ويستطيع - حسب معطيات استطلاعات الرأي الأخيرة - أن يكرر نجاحه أو حتى يتجاوزه. حتى ولو اضطر أردوغان إلى الانسحاب إلى الظل مؤقتا. ولذا فإن فوز العسكريين في المحكمة ما زال موضع تساؤلات كثيرة ويبدو أن الهدف الوحيد من أعمالهم يتلخص في تحذير الإسلاميين في تركيا من الإقدام على خطوات جديدة من شأنها أن تزعزع الدعائم العلمانية للدولة التركية.