عقدة إسمها إعادة بِناء قوّات الأمن الفلسطينية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
القاهرة: في ظل التعثر الذي لا زالت تشهده المفاوضات بين الفرقاء الفلسطينيين، لم يُـصدِّق أحد أبداً أنه قد تمّ إحراز تقدّم في هذا "الملف"، رغم وجود تصريحات تُـشير إلى حدوث ذلك.
فقد كان مفهوما طِـوال الوقت، أن مشكلة "أجهِـزة الأمن الفلسطينية"، ستكون آخر المشكِـلات التي يتِـم الاتفاق على حلِّـها، بعد أن تكون اللِّـجان الأربع الموازية قد توصّـلت - بحُـسن نِـية - إلى تسوِيات معقُـولة، فلن يغامِـر أي طرف بترْك قواتِـه أو تسليم سلاحه أو السماح بسيطرة أطراف أخرى عليها أو اختراق تلك الأطراف لها، دون أن يكون قد اطمَـأنّ على "موقِـفه"، خاصة وأن تلك القوات قد استُـخدِمت ضدّ بعضها في يوم ما عام 2007.
إن ما تم الاتفاق عليه خلال ثلاث جولات من الحوار الفلسطيني - الفلسطيني في القاهرة حتى الآن، هو مجموعة من المبادِئ العامة، التي يُـمكن الاستناد عليها بالفعل في إعادة بناء مؤسسة أمن فلسطينية نَـموذجية، لكن التفاصيل الخاصة بالكيفية التي تتصور بها حركة فتح ومنظمة حماس إتمام تلك العملية على الأرض، تُـشير إلى أن المسافة لا تزال واسعة وأن الشكوك لا تزال حادّة، خاصة وأنه لا يوجد تصوُّر محدّد لكيفية إدماج قوات، يُـفترض أن تتحوّل نحو الاحتِـراف، مع أخرى يتِـم تشكيلها على أنها "عقائدية".
القوتان الكبيرتان
لقد تحفّـظت الفصائل الفلسطينية الصغيرة على الطريقة التي تمّـت بها إدارة التّـفاهمات داخل اللّـجنة المكلّـفة بملفّ الأمن، وكان السبب هو أن كُـلاًّ من حركة فتح ومنظمة حماس قد اتّـجهتا إلى محاولة التعامُـل مع تلك المسألة بينهما في الأساس، في إطار ورقة كان عنوانها "تكْـييف أوضاع الأجهزة الأمنية الحالية في الضفة الغربية وغزّة، وِفق ما يتّـفق عليه" ووِفقا لقيادات بعض تلك الفصائل، كان ذلك يعني أن الحركتين الكبيرتين تتّـجهان إلى حلِّ المشكلة عبْـر صفقات ثُـنائية أو "محاصصة"، وتم طرح صيغة بديلة تؤكّـد على "معالجة أوضاع الأجهزة الأمنية في الضفة وغزة، وِفق قانون الخِـدمة والمصلحة الوطنية".
لكن الجانب الجاد في تلك المسألة، هو أن القوات الرئيسية المتواجدة على الأرض، تتـبع فتح وحماس في الأساس، فعلى الرغم من اكتظاظ الساحة الفلسطينية بالفصائل المسلحة، كسرايا القدس وكتائب أبو على مصطفى وجيش الإسلام وألوية الناصر صلاح الدين (المشتركة)، وقدرة تلك التنظيمات على التسبّـب في مشاكل، تظل القِـوى الرئيسية هي القوة التنفيذية، ثم كتائب القسام التابعتين لحماس وأجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، ومعها شهداء الأقصى التابعة لفتح.
إن التقديرات الخاصة بعناصر حماس المسلحة تشير إلى أن "القوة التنفيذية" تتألّـف من 13 ألف عُـنصر أمني ومسلح يعملون في غزة وتتمتّـع بتنظيم مُـتماسك، وقَـبضة قوية، كما أن كتائب القسام، غير محدّدة العدد، جيِّـدة التسليح وتمتلك صواريخ قصيرة المدى، مثل "غراد"، لكن لدى تلك القوات عُـموما مشكلات أيضا.
فالممارسات العنيفة ضدّ قطاع من سكّان غزة وتمكّـن إسرائيل من استهداف مقراتها و200 عنصر منها وأداؤها في حرب غزة واعتمادها على دعم مالي غير منتظم وقوى إقليمية متقلبة التوجّهات، لا تشير إلى أوضاع مُـريحة.
أما قوات السلطة الفلسطينية، فإنه تتم عملية إعادة بنائها بالفعل في الضفة الغربية، استنادا إلى الهياكل القديمة تحت إشراف الجنرال الأمريكي "دايتون"، الذي تمّ تمديد مهمَّـته، ودعم التمويل المخصص لها، ليصل إلى 160 مليون دولار وتم إنهاء تدريب بعض كتائب "قوة الأمن الوطني" وحرس الرئاسة فعليا، وإنشاء مقرات حديثة لها ونشرها في أماكن مختلفة، ويصل مجموعها الحالي إلى 11 ألف عنصر، في إطار هدف نهائي لتشكيل حوالي 50 ألف عنصر أمنى. وتتعرّض تلك القوّة إلى ضغط واسع من عدّة اتجاهات، تتعلق بمهامِّـها وكفاءتها وتسميتها "قوات دايتون".
المبادئ والتفاصيل
لقد تمكّـنت فتح وحماس منذ البداية من الاتفاق، على مبادئ العمل في لجنة الأمن، التي تتولى تحديد عدد الأجهزة الأمنية وبيان مهامِّها وعقيدتها الأمنية ومرجعِـيتها وتكييف أوضاع الأجهزة الأمنية الحالية في الضفة وغزة "وِفق ما يتمّ الاتفاق عليه"، وتحديد معايير وأسس إعادة بناء تلك الأجهزة، وضع خطة للمرحلة الانتقالية الأمنية (أي مرحلة ما قبل تسلّم الأجهزة الأمنية الجديدة مهامها)، والاتفاق على آليات المساعدة العربية، لبناء جميع الأجهزة الفلسطينية، واعتبر ذلك اختراقا، رغم ما أثاره من قلق لدى الفصائل الأخرى.
ولقد تمّت الإشارة على الفور إلى توافق فلسطيني حول إقامة ثلاث أجهزة أمنية فقط، هي قوات الأمن الوطني والأمن الداخلي والمخابرات العامة، وأنه ستنضَـم إليها أي قوة أو قوات أخرى موجودة أو قد يتِـم استحداثها، وهو تقدّم كبير قياسا على ما كان يُـثار حول عدد "أجهزة أبو عمار" المتناحرة، بل بدا أن تفسير المبادِئ لا يواجه مشكلة كبيرة.
فتبعا لما قاله موسى أبو مرزوق، أحد قياديي حماس، فإن "مَـن يريد أن يدخل الأجهزة الأمنية، عليه أن يخلَـع بزته الفصيلية وأن يرتدي بزته العسكرية، لأنه سيخدم أمن الوطن بأكمله، ومَـن يخالف ذلك، فهناك عقوبات، ومَـن ينتهي من مهمّـته الأمنية، يمكنه أن يلتحِـق ثانية بفصيله".
لكن الأمور لم تكُـن بتلك البساطة، فلم يكن ملف الأمن مُـدرجا أصلا من قبل في بنود اتِّـفاق مكة، ولا توجد خِـبرة مسبَـقة بشأن التفاصيل أو الهواجِـس المتعلقة به، بشكله الحالي، خاصة وأن حماس قد استندت عليه في تبرير عملية سيطرتها على غزّة، في ظل أقوالها بأن أجهزة الأمن تُـدار بواسطة الجنرال دايتون، الذي كان يعمل في غزة وقْـتها، وأن مهمّـتها كانت هي التّـنسيق الأمني مع قوات الاحتلال، وهو ما بدأ ينعكِـس مرة أخرى على أجواء الحوار، الذي أكّـدت حركة فتح خلاله على نقطتين:
-إن مهمة دايتون كانت سياسية، ترتبِـط بتطبيق خريطة الطريق، التي مثلت إطار التسوية السلمية.
- إن التنسيق الأمني كان آلية لحلّ المشكلات، ذات الطابع الأمني المدني والإنساني، ولا يمكن تجنّـبه.
لقد تمثّـلت الخطوة الهامة في هذا الصدد، في التوافق على إجراءات بِـناء ثقة، ترتبِـط بالإفراج عن المُـعتقلين السياسيين ووقف الممارسات التي تقوم بها أجهزة الطرفين ضدّ عناصر الطرف الآخر في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهي بشِـعة أحيانا، مع وقف الحملات الإعلامية بين الجانبين.
وعلى الرغم مما يبدو أنه التِـزام أولى من جانبهما بذلك، لا تزال التقارير تُـشير إلى ممارسات صعْـبة، لا تُـشير إلى أن أي منهما يتحسّـب لحدوث لقاءٍ وجها لوجه مُـستقبلا في "الهياكل الموحدة".
البرامج السياسية
والواقع، هو أن المسألة برمّـتها أوسع من ذلك، فمعالجة قضية الأمن تمثل - في الأساس - مشكلة برامج سياسية، بأكثر مما تتّـصل بهياكل إدارية أو سلوك مهني. فهناك خلاف حقيقي بين برنامج التسوية الذي تتمسّـك به فتح، وبرنامج المقاومة الذي تتمسك به حماس، بما ينعكِـس على تصوّرات كل منهما كالتالي:
middot; أن حماس تتحدّث عن ضرورة تبنّـي تلك الأجهزة لعقيدة أمنية "ذات أساس وطني"، وفقا لمفهومها وتحديد مهامها الوظيفية بحفظ الأمن الداخلي والتصدّي لأي عدوان خارجي، مع وقف أي تنسيق أمني مع الاحتلال أو أي شكل من أشكال الارتباطات الخارجية، والنأي بقوات الأمن عن أي اصطدام مع عناصر المقاومة. إن ما يمكن فهمه من ذلك واضح، وهو أن هناك مهمّـة عسكرية لقوات الأمن، وسوف لن تكون هناك اتصالات مع إسرائيل، كما يجب أن تتوقف برامج تدريب قوات الأمن الحالية في الضفة الغربية، وسيظل ما سُـمي فى حالة لبنان "سلاح المقاومة" قائم.
middot; أن حركة فتح تؤكِّـد على أهمية التنسيق الأمني على قاعدة الالتزامات الأمنية المفروضة بموجب اتفاقات أوسلو وخريطة الطريق، وتبدي انفتاحا بلا حدود على الالتزامات المقرّرة والاتفاقات الأمنية مع الإدارة الأمريكية وغيرها، والتي تشتمِـل على التزوّد بالسلاح والمعدّات وتدريب وتأهيل العناصر الأمنية والإشراف على الأداء الأمني، وفقا للمهام المحدّدة، وترفض توظيف الأمن الوطني الفلسطيني في أي محاولة للصِّـدام مع إسرائيل.
ويشير موقف فتح إلى الاتِّـجاه المعاكس، الذي يتعلق باستمرار الإطار الحالي لبناء قوات الأمن الفلسطينية، مع عدم قيام تلك القوات بأي مهام دعْـم للعمل المسلّـح ضد إسرائيل، مع عدم وضوح الموقِـف في حالة توغّـل إسرائيل داخل الأراضي الفلسطينية.
التوازنات الداخلية
إضافة إلى ذلك، فإن النِّـقاط المحدّدة التي طُـرحت مبكّـرا في الحوار الفلسطيني، قد ارتبطت بتوازنات السلطة في الداخل، إذ طالبت حماس بإخْـضاع الأجهزة الأمنية الثلاثة الرئيسية، وهي الشرطة والأمن الوطني والمخابرات العامة لولاية الحكومة، التي سيتم الاتِّـفاق عليها لاحقا، كما طالبت بتغيير اسم جِـهاز الأمن الوقائي، الذي ارتبط سابقا بالعقيد محمد دحلان، الذي تعتبره حماس أهمّ أعدائها داخل السلطة، ليُـصبح جهاز الأمن الداخلي.
ولقد رفضت فتح ذلك بصورة قاطعة، مؤكِّـدة أن جهازي المخابرات العامة - وِفقا للقانون الأساسي - والأمن الوطني يقعان ضِـمن صلاحيات رئيس السلطة وأن تعيين قائدي الجهازين يتِـم بمرسوم رئاسي، أما قِـوى الأمن الداخلي، فهي تتبع للحكومة، وذكر أحد مسؤولي فتح، أن حماس تريد تقليص صلاحيات الرئاسة على الأجهزة الأمنية، كما رفضت أيضا تغيير اسم جهاز الأمن الوقائي .
وقد ظهر خلاف آخر لا يقل حدّة حول وضع الأجهزة الأمنية، التي كانت قائمة في غزّة خلال مرحلة ما قبل أحداث يونيو 2007، فحركة فتح تريد إعادتها إلى وضعها السابق، بينما تريد حماس اعتماد الأجهزة الأمنية، التي شكّـلتها في القطاع بعد هذا التاريخ، مُـشيرة إلى اعتبارات إنسانية تتعلّـق بالعاملين الحاليين في القوة التنفيذية، وهي نقطة حاسمة تتعلّـق بمستقبل قطاع غزة، في ظل هيكل السلطة الفلسطينية أو بصورة أدقّ بمدى استمرار سيطرة حماس على قطاع غزة في المستقبل، فحسابات القوة تعمل منذ اللّـحظة الأولى.
لقد قدّم الطرفان مبرِّرات مختلفة لتعليق الجولة الثالثة من الحوار الفلسطيني في القاهرة في بداية شهر أبريل الجاري، إذ قال مسؤولون في السلطة الفلسطينية أن التعليق جاء نتيجة "طرح أفكار جديدة"، تتطلّـب التّـشاور مع قادة الفصائل المشاركة بجلسات الحوار، وذكر مسؤولون في حماس أن فتح أصرّت على مواقفها وحديثها عن خطوط حمراء.
لقد بدا من بعض التفاصيل، التي ذكرت حول تلك الجولة، أن الخلافات حول إعادة بناء أجهزة الأمن كانت أكثرها حدّة، فقد أشار صلاح البردويل، أحد قياديي حماس أن "حركة فتح أصرّت على أن إصلاح أجهزة الأمن في الضفة الغربية غير مطروح بتاتا على طاولة الحوار، وأن الحديث والإصلاح يقتصِـر على قطاع غزة فقط"، مُـضيفا أننا "سننتظر حتى تترتّـب الأمور بشكل أفضل"، والسؤال: هل يوجد إدراك كافٍ بأن حكومة نتانياهو قد تقوم بتسوية ما بقي من القضية الفلسطينية على طريقتها الخاصة، في حين ينتظر أصحاب القضية أن تترتّـب الأمور بصورة أفضل؟ أم أنهم يعتقدون أن التاريخ لا يزال يعمل لصالحهم؟
محمد عبد السلام