إنتهاكات الماضي وسيادة القانون تقلق أوباما
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
واشنطن: عندما فتح الرئيس أوباما ملفّ تعذيب المعتقلين بشبهة التورّط في الإرهاب في عهد الرئيس بوش وكشف النِّـقاب عن وثائق سريّـة تُـظهر تورّط مسؤولين كبار في إدارة بوش، على رأسهم نائب الرئيس ديك تشيني، في توفير غطاء قانوني لوكالة المخابرات الأميركية يتيح لها استخدام وسائل استجواب قاسية، تشمل التعذيب بطرق عديدة، منها الإيهام بالإغراق في المياه لإجبار المعتقلين على الإدلاء باعترافات، اعتقَـد الكثيرون أنه ترك الباب مفتوحا أمام احتمال محاسبة المسؤولين عن تشريع تلك الممارسات بقوله "إن الملاحقة القضائية لهم تعود إلى وزير العدل الأميركي".
ولكن الأعضاء الجمهوريين في الكونغرس دافعوا باستماتة عن وكالة الاستخبارات الأميركية وحاولوا استخدام الأمن القومي الأميركي كمبرِّر لاستخدام أساليب الاستجواب القاسية، وعندما حاولت رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي مساندة الدّعوة إلى تشكيل لجنة مستقلّـة للتحقيق في تورّط مسؤولين كبار في تشريع ممارسات التعذيب، واتهمت وكالة المخابرات الأميركية بتضليل الكونغرس، سارع الأعضاء الجمهوريون، خاصة في لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ، إلى الكشف عن حقيقة أن بيلوسي تمّ إطلاعها في عام 2002 على أن المحقّـقين يستخدمون أسلوب محاكاة الإغراق في استجواب المشتبَـه في ضلوعهم في الإرهاب، بل وهدّد الجمهوريون بتوريط الرئيس الأسبق بيل كلينتون في أي تحقيقات حول ملف التعذيب، باعتبار أنه أقرّ عندما كان في منصب الرئاسة استخدام السّـجون السرية في الخارج، بما في ذلك التعذيب لاستنطاق المشتبَـه في قيامهم بعمليات إرهابية ضد الولايات المتحدة.
وحتى عندما أعلن الرئيس أوباما أنه سيغلِـق معتقل غوانتانامو، سيِّـئ السُّـمعة، وطلب تخصيص مبلغ ثمانين مليون دولار لتمويل إغلاقه، عارض الكونغرس ذلك وطالب بأن يقدّم الرئيس أوباما، أولا خطّـة مفصّـلة بكيفية التعامل مع المائتين وأربعين معتقلا المتبقِّـين في المعتقل، وبشرط أن لا يؤدّي الإغلاق إلى تهديد الأمن القومي الأميركي، فيما واصلت منظمة الحريات المدنية الأميركية ملاحقتها القضائية لضمان كشف التستُّـر على انتهاكات للقانون والدّستور والقِـيم الأميركية، سواء بممارسات التعذيب أو احتجاز المشتبه فيهم لسنوات دون محاكمة، مما يشكل انتهاكا لحكم القانون.
وهكذا، تعرض الرئيس أوباما لوابِـل من الانتقادات. فالليبراليون ودُعاة سيادة القانون، يتهمونه بالتقصير في ملاحقة المذنِـبين وإثبات أنه لا أحد فوق القانون في أميركا، والجمهوريون واليمينيون، الذين يستخدمون تكتيكات تخويف الشعب الأميركي من خطر الإرهاب، يتهمونه بتعريض الأمن القومي للخطر، مما اضطره إلى التراجع ومحاولة انتهاج حلّ وسط يُـنهي التعذيب ويغلق غوانتانامو ويُـعيد سيادة القانون والتوازُن بين السلطات، دون الدخول في مواجهات سياسية وقانونية مع أي كان.
"لن نهدأ حتى نكفل سيادة القانون"
هذا هو ما صرّحت به السيدة كارولاين فريدركسون، مديرة مكتب منظمة الحقوق المدنية الأميركية في واشنطن وقالت: "لقد تورّطت إدارة الرئيس بوش في ممارسات التعذيب وانطوى ذلك على انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان والإساءة لمبدإ سيادة وحكم القانون، وبالتالي، الإساءة بشكل بالغ لصورة الولايات المتحدة ومكانتها في الخارج وتعريض الأمن القومي الأميركي للخطر، ولذلك فلن يهدأ لنا بال حتى يتحمّـل مَـن أساؤوا عواقِـب انتهاكهم للقانون والدستور الأميركي".
وقات مديرة المنظمة، التي تكرس جهودها للحفاظ على سيادة القانون وحماية الحريات والحقوق المدنية في الولايات المتحدة، إنها تحمِّـل الرئيس أوباما مسؤولية الالتزام بسيادة القانون والحفاظ على الشفافية بعدم التستّـر على ما حدث في عهد الرئيس بوش، فيما يتعلق بسيادة القانون وانتهاكات حقوق الإنسان بممارسة التعذيب واحتجاز المشتبه فيهم لسنوات دون محاكمة.
وأضافت كارولاين فريدركسون "أحد العناصر المهمة، لكون الولايات المتحدة دولة ديمقراطية، هو متابعة ما تقوم به الحكومة ومحاسبة المسؤولين وتحميلهم مسؤولية ما يتّـخذونه من قرارات، خاصة عندما ينتهكون القانون، وبدون توفّـر هذا العنصر، لن يكون هناك فرق بين الديمقراطية الأميركية والحكومات الإستبدادية، التي لا تحسب حسابا لشعبها، وصحيح أن الرئيس أوباما تعهَّـد بالمُـضي قُـدما نحو التغيير، ولكن يجب عليه أن يُـدرك أن الطريق إلى المستقبل يعتمد على الاستفادة من أخطاء الماضي، والطريقة الوحيدة لاختبار ما إذا كان يتعيّـن حماية المستقبل بقوانين أفضل وممارسات أجود، يتعين معرفة ما الذي أخطأنا فيه في الماضي".
وقالت السيدة كارولاين، إن المنظمة تضغط من أجل أن تكلف وزارة العدل لجنة تحقيق غير حزبية ومستقلة لتقصي الحقائق فيما يخص ممارسات التعذيب التي تمت بأوامِـر من حكومة الرئيس بوش، لمعرفة ما إذا كان مسؤولون في تلك الإدارة قد ارتكبوا مخالفات قضائية وقانونية تستدعى محاكمتهم جنائيا.
وأكدت أن وزير العدل إيريك هولدر لم يستبعد بعد إمكانية الملاحقة القضائية لأولئك المسؤولين، كما أن المنظمة تواصل ضغطها على الكونغرس لعقد سلسلة من جلسات الاستماع لسَـبر أغوار ما حدث فيما يتعلّـق بالتعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان خلال فترتي رئاسة بوش وقالت: "إذا كانت إدارة أوباما تُـحاول تحسين صورة الولايات المتحدة في العالم، فإن أفضل وسيلة لذلك أن تتماشى أفعالنا مع أقوالنا ومبادئنا، وأن نُـظهر للعالم احترامنا للقانون الدولي وحقوق الإنسان واتفاقيات جنيف، وأن لا نطالب دُولا معيّـنة بعدم استخدام التعذيب، فيما نمارسه نحن، وإلا ظهرنا للعالم كمُـنافقين نقول الشيء ونفعل عكسه، فهذا يقوِّض مِـصداقيتنا ويُـعرّض أمننا للخطر".
أوباما يستعين بالشعب الأميركي
وإزاء ضغوط الكونغرس ولجوء زعامات الجمهوريين من أمثال ديك تشيني إلى تخويف الشعب الأميركي من أن إغلاق معسكر غوانتانامو ووقف أساليب الاستجواب التي تنطوي على التعذيب تهدِّد الأمن القومي الأميركي، وجه الرئيس أوباما خطابا إلى الشعب الأميركي من دار الوثائق الأميركية، التي تحتوي إعلان حقوق الإنسان ووثائق الدستور الأميركي، أكد فيه أنه لن يتراجع عن قراره بإغلاق سجن غوانتانامو الذي استخدمته إدارة بوش لانتهاك القانون خارج الأراضي الأميركية، والذي استخدمه تنظيم القاعدة كمبرّر لتجنيد المزيد من الإرهابيين، بشكل زاد من تهديد الأمن القومي الأميركي وأضعف مكانة الولايات المتحدة كدولة ديمقراطية تحترم القانون وحقوق الإنسان.
ولطمأنة الشعب الأميركي والكونغرس، قال الرئيس أوباما، إن إدارته لن تطلق سراح أي معتقل يثبت أنه سيعرِّض الأمن القومي الأميركي للخطر، مشيرا إلى إمكانية تقديم المحتجزين الخطرين إلى المحاكمة في الولايات المتحدة ووضعهم في سجون أميركية تخضع لحراسة مشددة.
وقال أوباما: "إن الطريقة التي تمّ بها استخدام السجن مكانا لانتهاك القانون خارج الأراضي الأميركية، اتسمت بالفوضى المبنية على الخوف ولم تكن ممارسات التعذيب فعّـالة، وكل ما أنجزته هو أنها أساءت إلى الصورة الأخلاقية للولايات المتحدة وشكّـلت انتكاسة لحكم القانون ولن يتم استخدامها بعد الآن، لأنه لا مكان للتعذيب في الولايات المتحدة".
هناك أمل في سيادة القانون
تقيِـيم خصّنا به الدكتور داود خير الله، أستاذ القانون الدولي بجامعة جورجتاون، عندما سألناه عن رأيه في محاولات الرئيس أوباما التوفيق بين هواجس الأمن القومي، التي يروّج لها الجمهوريون ومبادئ احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون ومحاسبة الخارجين عليه، التي يساندها الليبراليون ومنظمات الحقوق المدنية وحقوق الإنسان فقال: "لقد تمكّـن الرئيس السابق بوش ومن حوله، بل وباستخدام بعض المشرعين الأميركيين من اللجوء إلى تجاوزات انتهكت القانون والحريات واعتمدت أساليب غير إنسانية في الاستجواب وبرّرت كل ذلك بترويع الشعب الأميركي من خطر الإرهاب الدولي المحدق بالأرض الأميركية، وتقنين ممارسات تتعارض مع القيم والمبادئ الأميركية"، ولكن الأمل في استعادة حكم وسيادة القانون في عهد الرئيس أوباما مرهون بقُـدرته على الصمود لأصوات الماضي، مثل نائب الرئيس السابق تشيني والمتشدّدين من الجمهوريين من أعضاء الكونغرس، وهو ما فعله بكفاءة حتى الآن في خطابه إلى الشعب الأميركي، حين ردّ على كل حملات التخويف وأكد أن ممارسة التعذيب لن يكون لها مكان بعد الآن وأنه مُـصرّ على إغلاق معتقل غوانتانامو.
وقال الدكتور داود خير الله "إن سجن غوانتانامو والصُّـور التي أظهرت الانتهاكات الفاضحة لحقوق السجناء في سجن أبو غريب في العراق، ساهمت في تأجيج جذوة المشاعر المُـعادية للولايات المتحدة في العالم، وألحق ضررا بالغا بمصداقية الولايات المتحدة وما تروِّج له من مبادئ الحرية والديمقراطية وسيادة القانون، لذلك، فإغلاق السجن وتعهد الرئيس أوباما بحظر التعذيب، بل وتركه الباب مفتوحا أمام الملاحقة القضائية لكبار المسؤولين عن تقنين التعذيب بتفسيرات خاطئة للقانون المحلي والقانون الدولي، خاصة اتفاقيات جنيف، يمكن أن يوفر المزيد من الأمل في سيادة القانون والأمل في استعادة بعض المصداقية للولايات المتحدة في الخارج".
وفيما يتعلق بنشر آلاف من صُـور الإساءة إلى المعتقلين في سجن غوانتانامو فيما بين عامي 2002 و2004، مع استبعاد قليل منها استجابة من الرئيس أوباما لنصائح من مستشاريه للأمن القومي بأنها قد تضر بالمصلحة الأميركية وتمكن الإرهابيين من استغلالها لشنّ مزيد من الهجمات على الجنود الأميركيين في الخارج، قال الدكتور داود خير الله "إن منظمة الحريات المدنية الأميركية استأنفت هذا القرار في إطار حملتها لفرض سيادة القانون ومحاسبة كل مَـن أساء استخدام صلاحياته، وستواصل المنظمة حملتها للدفاع عن سيادة وحكم القانون والوقوف بشدّة ضد كل محاولات احتجاز المشتبَـه فيهم بدون محاكمة"، وقال "إن مبادئ أوباما، وإن تعرّضت لضغوط، فإنها كفيلة مع جهود منظمات الحقوق المدنية ومنظمات حقوق الإنسان باستعادة حكم القانون في الولايات المتحدة بعد ثمانية أعوام من انتهاكات إدارة بوش، وهي علامة صحية على قدرة النظام الأميركي على تصحيح نفسه من خلال المؤسسات الديمقراطية القائمة وتصحيح صورة الولايات المتحدة بالتوفيق بين القِـيم الأميركية والممارسات الأميركية".
محمد ماضي