وعيٌ على ذكرياتي: غائب طعمة فرمان (2)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
وصلت اخيرا الى موسكو عبر البحر والبر وهي مغامرتي السندبادية الرابعة بعد مصر ثم انكلترا فسوريا (رحلتي السندبادية الحالية وانا على مشارف الثمانين هي السابعة وقد يخبيء الغيب رحلة ثامنة بعدها فاتعدى اساطير السندباد السبعة).&
.. كل شيء زاه مشرق، حتى الثلج الذي يغطي كل معالم المدينة عند وصولي مختلف عن الثلج الانكليزي الذي لسعت بسعيره ولعنت جحيمه.&لم يكن في موسكو آنذاك سوى ثلاثتنا نحن الطلبة العراقيون، محمد علي، ومصطفى ابن خالتي القادمين بزمالة من الحزب، وانا القادم بزمالة جديدة اسمها (زمالة الجواهري)، والذي حار السوفيت في اي (خانة) سيضعونها، الى أن هداهم باريهم فوضعوها في خانة زمالات الشباب العالمي.&كان هنالك من العراقيين الاخرين (شاهين) الشيوعي اليهودي الهارب وهو متفرغ لمناقشة اطروحته القريبة و(مسرور كتانة) اليهودي الهارب الآخر والذي يعمل في اذاعة موسكو والمجموعة القيادية الكردية البارزانية وعلى رأسها مصطفى البارزاني، التي تنزل في فندق موسكو الفخم تهيئا لعودتها الى العراق.&لا سفارة ولا ملحقية ولا قنصلية عراقية بعد.. وها نحن -الفرسان الثلاثة- بعد بضعة اشهر سنكون في استقبال افرادها القادمين بالتقسيط.&شاب من بيت كاشف الغطاء يصل كسكرتير للسفارة فنستقبله ونسعى معه لدى السلطات الرسمية وكأننا افراد ضمن كادر السفارة لنهيء مكان اقامته، ونبحث معه ومع السلطات عن اختيار موقع وبناية السفارة الانسب لها.. ويطول البحث دون جدوى ولحسن حظ الجميع ان الوقت كان وقت عطلة الجامعات.. يأتي سكرتيرآخر ويتكرر المشهد السابق نفسه..&.. لا مكان مناسب للسفارة بعد فتقرر السلطات وضع جزء من احد الفنادق واحدى صالاته مكانا موقتاً&.. يصل عبد الوهاب البياتي.&.. البياتي اول ملحق ثقافي يعين في موسكو.. استقبلته بترحاب فقد عرفته من ايام دمشق، وقد صممت له آنذاك كتابه الشعري المترجم (عيون إلزا) للشاعر الفرنسي أراغون ووضعت تخطيطات رسومه.&.. بدأنا نحضَرمع اعضاء السفارة الثلاثة كل الحفلات والمقابلات التي تقيمها الدولة والسفارات الاجنبية لنقوم فيها بدور الوسيط والمترجم..&.. (ابوعلي) يستخدم كل هذه المناسبات وغيرها حاملا رزمة من مجموعته الشعرية الجديدة-بالعربية- ويقوم باهدائها الى الشخصيات المهمة سواء اكانت ادبية اوسياسية او عسكرية.&.. يصل الى موسكو وزير الصحة محمد الشواف فنكون في معية المستقبلين السوفيات ونرافقه واعضاء السفارة الثلاثة في اسقبالات الاحتفاء بقدومه الى موسكو..&.. تدور معارك المحاولة الانقلابية لعبد الوهاب الشواف في الموصل.. يلقى عبد الوهاب مصرعه ويذاع الخبر وحفلة الاستقبال لاخيه محمد الشواف قائمة في نفس الليلة.. إنه موقف محرج تماماً..&.. وزير الصحة واخو الشواف القتيل في كامل هدوئه ووقاره يتحدث عن امور عامة مع وزير الصحة السوفياتي ومع موظفين كبار في الوزارة ومع اعضاء من السلك الدبلوماسي وحضور جنرالين سوفيتين.. نحن وقد كنا في معيته في الاستقبال وفي زيارته في مكان اقامته بدار الضيافة، نتشاور فيما بيننا.. يأتي الينا مندوب عن القائمين على حفل الاستقبال لإستشارتنا عن التقاليد المتبعة لدينا في ضرف معقد كهذا.. نقترح ان يعزى الوزير باخيه وان يستمر الحفل بحضوره وكأن شيئا لم يكن.. يأخذ القائمون على الحفل بنصيحتنا.&يعلموني بوصول غائب الى موسكو فافرح كثيرا فلا تزال ذكرى لقاءه في حلوان عالقة في ذهني.. ازوره في غرفته في فندق موسكو وآخذه بحرارة باحضاني.. فيصطبغ وجهه الطفولي بنفس الحمرة الخفيفة السابقة التي لا تبارح ذاكرتي.. هو ذاك الغائب حتى هيئته الجسدية وقيافته لم تتبدل الا قليلا، بعض الامتلاء وعوينات سميكة جديدة.. ادعوه الى الخروج للعشاء.&.. في مطعم ارمينيا بانارته الهادئة وروائح اطعمته المتبلة ومع قدح النبيذ الارميني المميز يطلعني غائب-الذي يشرب باعتدال آنذاك- بلثغته الطفولية وتقطعاتها عن جولته من مصر فالعراق ومن ثم الى صين ماو الجديدة حيث عمل في قسم الترجمة، وها هو الآن يحط رحاله في موسكو بعقد عمل جيد في دار النشر باللغات الاجنبية في موسكو(رادوغا لاحقاً) مع توفير سكن لائق كأحد شروط العقد.. دار النشر تبحث له الآن عن شقة مناسبة مع وعدهم بأنه سينتقل اليها قريبا.&.. انتقل غائب بعد وقت قصير الى شقته الفارهة غير بعيد عن جامعة موسكو الذي افلحت (بالطرق المائلة) بأن اقضي في سكنها الطلابي، وهوفندق ذو خمسة نجوم، ردحا من الزمنلم يمض طويلا على لقاءنا الاخير حتى سقط غائب، الذي لم يعرف علاقة حب جسدية في حياته، من على سطح شقته الفارهة في الطابق الثالث الى اعماق (أينا) المليحة الشكل والأهم ليسقط اعمق لمعرفته بانها تعد اطروحتها عن (توماس مان ) الذي يعشق غائب ادبه.. غائب مطمح اية فتاة في موسكو براتبه الكبير بالعملة الصعبة وبشقته الفارهة (.. كانت حصة السكن آنذاك في موسكو 6 امتار مربعة للفرد الواحد).&ادعوهما الى مطعم جميل مطل على نهر موسكو..&&غائب في قمة انشراحه ومرحه وانطلاقته يروي لقطات مضحكة نادرة مرت عليه في ازقة بغداد القديمة او نوادر من مصر او غرائب الصين..&إينا صامتة مطرقة الرأس في اغلب الوقت.. لاتخفي حرجها من انها تجالس شرقيان غريبان في المطعم المكتض بزبائنه الروس.. غائب يتودد اليها بحذر بانكليزيته الطلقة ويحاول ان يكسر بعض صمتها فلا يفلح فاسارع الى نجدته من حين لآخر لاتحدث معها بالروسية..&.. على مائدة قريبة عليها قنينتا فودكا واقداح وحولها بضعة رجال يتحدثون بمرح وبصوت عال، وبالطبع لا يمكن في جلسة روسية منفتحة مثلها إلا وتطعم كل عبارتين على الاقل بذكر الاعضاء الجنسية.. " وذهبت الى المكان الاول فلم اجد (ني خويوي).. ثم عرجتُ بعدها على المكان الثاني فلم يكن هناك (ني بيسدا).. (يوب تفويومات) واصلت البحث (ني يوب، ني جيرتا) فلم اجد شيئا.. "&.. اكفهر وجه إينا وتحدثت هامسة بضع عبارات في اذن غائب بغضب.. احمر وجهه وقال بصوت متلعثم : " هلا تحدثت مع من هم حول الطاولة المجاورة ان ينتبهوا ان بجانبهم سيدة محترمة "..&اطعت، ومبتسما نهضت وتوجهت الى المائدة القريبة وبما يقرب النكتة قلت " وددت لو اني شاركتكم الحديث ولكن هنالك سيدة الى جواركم ترفض ذلك.. ساكون شاكرا!".. ولم نسمع منهم اي كلمة تطعيم روسية اخرى بعدها، ومع ذلك فقد تحدثت بهمس مرةاخرى اليه.. احمر وجه غائب من جديد وهو يعتذر مني-انا صاحب الدعوة- وبصوت ازداد تلعثمه، بان عليهما مغادرة المكان لاعياء مفاجيء اصاب إينا.&.. عند باب المطعم غادرتهما معتذرا باني ساتركهما لحريتهما في طريق العودة.&.. لم ار إينا بعدها ابدا رغم تسللي الى غرفة غائب مرات عديدة في الشقة التي يسكناها سوية فيما بعد.&أينا تتزوج غائب بصمت وبشكل شبه سري.. &&&تصل المجموعة الاولى من الطلبة العراقيين القادمين الموفدين من الحكومة العراقية ،كان على كل طالب ان يدفع كل قادم مبلغ 160 دينارا عن كل عام يقضيه في الاتحاد السوفياتي وهذه المبالغ ستحوّل بدورها من وزارة التعليم العالي الى البلد المضيف.&يصل اخي الاصغر كفاح الى موسكو.. لم تطل فرحتي بقدومه كثيرا، فهم ينوون ان يضعوه في مدينة اخرى غير موسكو.. احاول التوسط لدى الصديق محمد علي ، الذي اضحى زعيما طلابيا كبيرا لابقاء كفاح بقربي في موسكو فيدير لي ظهره.&بحضور حشود الطلبة الاجانب من اقطار المعمورة العديدة وبعد ان فتح زمن خروشوف بعض اسوار الستار المنيع ، كثرت اللقاءات والإحتفلات الطلابية في جامعة موسكو او في قاعات الكليات الاخرى خارجها..&.. يغيب غائب عن كل ذلك.. يرن الهاتف في صباح باكر من يوم الاحد فاسمع موظفة الاستقبال في الجامعة على الطرف الاخر من الخط ، تعلمني بان ضيفاً يرغب بلقائي.. اهبط فاجد غائب.. ادعوه للدخول فيعتذر ويقترح ان نسير في مماشي الجامعة وحدائقها المطلة على نهر موسكو.&نتهادى بسيرنا وغائب صامت سارح بافكاره.. احترم صمته واسير الى جانبه دون كلمة.&يكسر حاجز الصمت ويسألني وهو مطرق براسه وحزن شفيف على وجهه :-هل يمكنك ان تطلعني على بعض قوانين الوراثة.. او على الاقل اساسياتها المبسطة؟- ذلك يعتمد على اي جانب فيه.&- العنصر القوي و الضعيف في الوراثة.&- تقصد الصفات المتغلبة والصفات المتنحية..&- نعم نعم بالضبط هذا ما اريد معرفته.&- خبرني ياغائب هل هو مشروع رواية جديدة.. ولكن لا ! لا اعتقد ان تساؤلاتك ترمي الى هذا الغرض ، فنحن في وقت مبكر من الصباح ووجهك تعلوه كآبة غريبة علي.&اطرق براسه من جديد وصمت فترة من الزمن.. استند على حافة مقعد خشبي لجلوس المتنزهين ثم قال بحزن..&- (إينا) حامل.. قالها بقلق وعاد الى صمته من جديد.&احتضنته بحرارة وبضحكة وبلهجة مازحة ساخرة :- وهل يحتاج ذلك الى هذا الوجوم.. إنه خبر عظيم مفرح.&- لا اعرف.. لا اعرف.. إينا تخشى ان يكون المولود القادم شبيهاً بي.&استدرت اليه بتعجب وببعض الغضب قلت بصوت عال:- اللعنة.. وما الخوف من ذلك.. ما الخوف أن يأتينا غائب آخر.. غائب جميل بوجهه البريء ببسمته الحلوة.. غائب بفكره المبدع الخلاق.. كم غائب لدينا يا غائب.. وواصلت حديثي المطَمْـئن الغاضب.&صمتَ غائب وسرح ببصره بعيدا عني واكتسى وجهه بحزن عميق..&- انا لا اريد ان أخسر إينا فانت تعرف انني احبها.. لقد لمّحتْ لي الى اجراء اجهاض لهذا الحمل.. أنا لا اريد أن أخسر إينا.&.. غائب يبدأ بالاكثار من تناوله للكحول..&.. يفرط غائب في تناوله الكحول.&أتسلل لوحدي الى شقته او نتسلل انا ومحمد بين فترة واخرى فنجلس في غرفته.. ها هو المرح يعود الى وجهه من جديد.&- " اربعة من النسوة يلففن عباءاتهن حول اجسادهن ينظرن بحيرة وببعض الفزع الى كومة القمامة.. هنالك لوح خشبي صغير مرمي فوق سطحها في الزقاق.. لوح رماه طالب طب يسكن في الجوار.. على اللوح ضفدعة مشقوقة البطن والصدر ثبتت من اطرافها بدبابيس اربعة.. مدماة الاحشاء يخترق رأسها من الخلف دبوس خامس&.. بعد ان نظرت كل واحدة الى الاخرى بتساءل.. قالت الاولى " يُمه هذا سحر ملعون.. بس مِنو هووه اللي مْسَويهْ وإلمنْ ؟!".. "اكيد مسويهْ لبنت الخايبة هذي العروس الجديدة ، ضرّة أم هاشم.. " قالت الثانية.. " ليش ما تكولين مسويته هاي الكحبة ام عدولي لبنتي اللي نجحت بالبكالوريا وراح تدخل الكلية.. تعرفون آنه رديتها من جَتّي تخطبها لابنها الاغبر عدولي ".. "هسه كولَـنْـلي شلون نْبَطِلْ السحر هذا ؟! " قالت الثالثة.. " ما كو غير يْنْـرَش عليه عظام مهروسة لدجاجة ميتة وبايلة فوكها عجوز حاجة بيت الله ".. واستمر حوار النسوة الاربعة لفترة طويلة. "كان غائب يروي مشاهدته للموقف هذا من نافذة غرفته في الزقاق بـ(قنبرعلي)&.. ربما سيضع هذا المشهد في رواية قريبة يكتبها ، هذا ما تبادر الى ذهنينا ونحن نستمع اليه.&أعرف منه ان زوجته قد غادرت الى دار استراحة مدة ثلاثة اسابيع للاستجمام في احدى ضواحي موسكو ، منطقة جميلة اعرفها بغاباتها وبالبحيرة الواسعة قربها.. اكثر من زياراتي له في شقته.. نتحدث اغلب الوقت في المطبخ حيث ينشغل بهدوء باعداد الطعام الذي تحبه (إينا) فوجبات دار الاستراحة لا تعجبها، وبعد ان يكمل اعداده يضعه بترتيب انيق في علب مناسبة ثم يضع العلب في حقيبة يدوية.. يزورها بحقيبته هذه كل يوم رغم أن الو صول الى هناك يستغرق ساعتين.&نخرج انا ومحمد معه في الايام المشرقة ، الى احدى المطاعم المفتوحة القريبة.. وجهه دائما تعلوه ابتسامة رقيقة او ينطلق احيانا بضحكة يشرق فيها غالبا، وذلك حين نتطرق او يتطرق هو الى سرد نكتة مضحكة او حكاية غريبة.&- ".. يبدو ان الاستراحة التي ارادها (ين هاو) لبضع دقائق وهو في مسيرة الالف ميل للرفيق ماو، قادته الى اغفاءة طويلة لم يصح منها إلا ومسيرة الرفاق لا ترى سحابة غبارها في الافق القريب او البعيد.. نهض ين ووضع معداته المرزومة على ظهره وسار فيما يظن بانه اتجاه مسيرة الرفيق ماو الكبرى.. مضى نهار كامل وهو يسير تحت لظى الشمس الحارقة والعرق يتصبب منه بغزارة وبدأ العطش يجفف حلقه.. اخرج زمزميته ووضعها على فمه فلم يجد فيه إلا قطرات زادته عطشا.. تابع سيره حتى واتاه الظلام وقد اخذ التعب منه كل مأخذ ، لكن ين قرر الاستمرار في السير لعله يلحق بالرفاق عند مطلع الصباح.. ين يصل الى مرحلة الاعياء ، ويشاهد وهو يجرر اقدامه بصعوبة ،عين ذئب تتلامع عن شماله في الظلام.. عرف ان الذئب يتابعه منتظرا أن تخور قواه فيهجم عليه ويفترسه.. بدأت تباشير الفجر ولا يزال الذئب يرافقه غير بعيد عنه منتظرا فرصته حين يتخاذل.. ها قد وضح النهار وين يوشك ان يقع مغمى عليه من الاجهاد والعطش والذئب يواصل مشيه عن شماله.. ايقن ين انه سينهار وانه واقع حتما فريسة للذئب المترصد.. اوشك ان يستسلم ويستريح من عذابات الارهاق والعطش الممضين.. ولكن ين وهو رفيق المسيرة الكبرى لفترة طويلة، قرر ان يقاوم وأن يشحذ ذاكرته ليستعيد وجه الرفيق ماو وتظهر صور كفاحه وصلابة سيره.. افلح ين في محاولته وما أن يظهر الرفيق البطل ماو امامه في ذاكرته حتى ينظر الى شماله فيرى الذئب وهو يهرب بفزع مبتعداً.. " يقصها غائب ضاحكا وهو يروي بعض ذكرياته عن عمله في الترجمة في الصين ، ويعقب " لقد كنت في ورطة محرجة فكيف لي ان اقنعهم بان نشر مثل هذه الاقصوصة ستجعل منهم سخرية للاخرين ، وإن لّم اطلعهم فستنشر القصة مع اسمي ، أنا مترجمها.&.. غائب يفرط بالشراب حتى الضياع.. يشرب دائما خارج البيت مع الصحبة القليلة التي تروقه ويعود في ساعة متأخرة من الليل إن افلح في الاستدلال على مكان اقامته. تحل هذه المعضلة بمعرفة النديم المرافق لوضعية غائب فيصحبه الى باب شقته.&&.. قبل ليلتين من راس السنة الجديدة نحتفل مع غائب بقدومها في مطعم غير بعيد عن بيته.. غائب يفرط في شربه للفودكا كالعادة فيسكر ويكثر في حديثه ونكاته وضحكه وتلعثمه.. انا ومحمد نحتفظ ببعض وعينا.. يصر غائب في طريق العودة الى منزله ان نعرج على مخزن كبير لا يزال مفتوحا في هذه الساعة المتأخرة لنشترك في قنينة من الفودكا ، كعادة الشاربين الروس آخر الليل.. نحاول ان نثنيه عن ذلك فيصر ضاحكاً.. هناك وبعد ان وضع قنينة صغيرة في جيبه، يلمح بائعة اسماك جميلة.. فيمازحها فتسأله عن طلبه فيشير ضاحكاً الى اسماك سردين صغيرة نيئة.. تزن حفنة منها وتناوله كيس السمك.. يحمله بيده ويمشي معنا حتى نقترب من مجمع سكنه فيصر على ان يذهب الى شقته لوحده.. نقتنع اخيرا ونفترق.&.. يقف الى جواري في عربة قطار الانفاق شاب رشيق مزوّق في اناقته ، يلمع وجهه بمساحيق ودهون التبرج، ويضع في احد اذنيه حلقة ذهبية.. يبادرني الحديث فاجيبه بمرح المنتشي في سكره.. يقول انه راقص باليه في البولشوي وقد انهى دوره هذا المساء وها هو يعود الى مسكنه الموحش الخالي من الرفقة.. فاجاريه واتعاطف معه في وحشة وحدته.. يدعوني ان ارافقه لنقضي ليلة عابثة معا فهو في شوق الى رجل (قوي) مثلي.. اعتذروانامستمر في تمثيل دوري كرجل مثلي شبِق، وبه رغبة لشاب جميل رقيق مثله.. اربت على عجيزته واعداً اني ساوافيه حتما في الغد والبي رغبته.&.. محمد ينجح في الوصول الى باب غرفة حبيبته في الدور المخصص للبنات من عمارة السكن الطلابي في احد اطراف موسكو.. حين لا تفتح الحبيبة الباب استجابة لطرقه العنيف المستمر ونداءاته العالية الملحاحة، يهدد اولاً بانه سيطعن كفه بسكين يحملها معه ويسمرها بالباب ، وحين لا تفتح الحبيبة الباب تحت هذا التهديد، يجمع من سلال النفايات القريبة رزمة كبيرة من الورق ويشعل النار فيها محاولا احراق الباب المغلق.. يُستدعى حرس العمارة الخافرين ليشدوه ويرموه خارجها.&.. غائب يصحو ليجد نفسه ممددا فوق مصطبة في احد المتنزهات في منطقة تبعد باكثر من عشرة كيلومترات عن منطقة سكنه.. يبحث عن تاكسي وهو يرتجف ويكاد يجمد من البرد القارس.. يوصله التاكسي الى باب العمارة التي يسكن فيها.. يمد كفه في جيب معطفه ليدفع اجر السائق فتخرج يده لزجة مليئة بسمك السردين الصغير النيء.&.. حين نذهب انا ومحمد للاطئنان عليه، متسللين كالعادة بعيدا عن اعين العدو المترصد، يقص علينا وهو يضحك بانطلاق ومرح كبيرين حكاية المتنزه ودفع اجرة التاكسي بحفنة من السمك.. نحكي بدورنا مسرحية قطار الانفاق وراقص البالية المثلي ، وقصة محمد الفضائحية التهريجية الصاخبة.&&انتهت جلسة التوديع الاحتفالية في مطعم مطل على النهر غير بعيد عن بيت غائب&.. افقدت كؤوس الفودكا التي كرعها غائب توازنه وزادت من لثغته وتلعثمه، وكان علينا وكالعادة في السنتين الاخيرتين أن نرافقه حتى باب شقته كي لا يصحو في اليوم التالي ويجد نفسه ممددا في احدى الحدائق العامة او فوق سلالم عمارة في حي آخر غير منطقة سكنه.&اسندناه انا ومحمد عند باب شقته.. قرعنا الجرس وهربنا بسرعة نازلين الى زاوية السلم المعتمة في انتظار أن تفتح زوجته إينا الباب.. اطمئنينا على دخوله منزله دون اضرار ثم انصرفنا.&&لم يكن في وداعي في مطار شيرميتفا غير لودا الباكية.. اقبلها من عينيها الدامعتين..&واحمل حقيبتي الصغيرة واتوجه الى الطائرة مغادرا موسكو.&&أحمد النعمان الفنان والصديق الذي رحل منذ زمن قريب وترك الم فرقة وشوق.. وفراغ ، كان يروي بمحبة كبيرة لقطات من علاقته الحميمة بغائب من السبعينات وحتى رحيله وزياراته المتعددة له في مرسمه او في بيته الصيفي ( الداجا) في ضواحي موسكو وبالطبع منادمة غائب الحلوة المرحة في كؤوس الفودكا.&في لقاءهما الاخير في البيت الصيفي.. غائب يتنفس بصعوبة ووجهه متوزم شاحب ولكنه لا يفقد مرحه وسرد طرائفه بعد ان تؤدي الفودكا مفعولها السحري في فتح ابواب النفس وانطلاقة اللسان وفي نهاية الجلسة العامرة بالكؤوس والاطعمة اللذيذة التي يجيد احمد اعدادها ، يطلب منه ان يملأ بالفودكا قنينة دواء فارغة يحملها غائب ليأخذها معه الى الدار بعيدا عن عيني إينا زوجته التي تستعد للسفر بعد يومين -دون رفقته- للاستجمام لمدة شهر على شواطيء البحر الاسود.. يرفض احمد ذلك وهو يحتضنه بحرارة مداعبا.. يستدير غائب ليغادر.. يقول عبارة تحببه المعهودة لأحمد.. " من عابتْ لكْ هاالوجِه" ، ويكون هذا لقاءهما الاخير.&. بعد يومين من هذا اللقاء يرحل غائب بعيدا ويغيب في مجاهل اللاعودة.&&رسالة من الجواهري الى غائب :أخي الحبيب ابا سمير&لوتعلم كما انا حزين عليك، آسف على فقدانك حتى لاكاد استمحيك العذر في ان استبق بهذا كل الحزينين عليك، بلدك الحبيب الشامخ امامك حتى الرمق الاخير، وكل الموهوبين والملهمين الذين يشاركون اليوم في ندوة تكريمك ومن هنا وهناك وممن تعرفوا عليك، خلال ابداعاتك وانجازاتك والواحك الملونة والاصيلة ومنها ( نخلتك وجيرانك). ولا ادري من منا كان قد استبق الاخر، فلربما قد ذكّرتني ولربما ذكّرتك، وانا اناغي ايضا نخلتي وجيراني ، عندما اقول :وسدرةٌ نضدها خُضرٌ وساقيةٌ &وباسق (النخل) معقوف العراجينِحبيبي الغائب..&يا ابا سمير هذه لوعة من القلب وعلى الورق، لم اردها ان تكون برقية يتآكل البرق من الخاطب الكثير من وجهها وحرارتها. وانما اردت منها مجرد الاشارة الى أنني انتظر بلهفة اليوم بل الساعة التي يسعفني بها الزمن وانا غير مرهق ولا مثقل بالهموم وغيابك في الصميم منها، بل ولا انا عاجز ان اضع القاريء في الصورة منها، من بعضها، من واحدة منها.&وفي ذلك اليوم وفي تلك الساعة ساكون سعيدا انني عرفتك فناناً وانساناً وطفلاً بريئاً،وهذه (الماسات) الثلاثة المقدسة التي اعرف ويعرف كل قاريء كم هي الكثرة الكاثرة التي تحمل المزيف منها والمصنوع والمقَـلد، ولكنني لا اعرف ولا المنجم يعرف، من هم وكم هم الذين يجرؤون أن يقول الواحد للاخر او الآخر انني أحملها انني امتلكها، انني استحقها، انني انا الفنان، انا الانسان، انا الطفل البريء.&يا ابا سمير لقد طوت العصور الف بساط وبساط من اثمار السلاطين والفراعين والمترفين، ولكنها لم تُقـد ِر ولم تَـقـدَ ر ان تسحب بساطا واحدا من تحت اقدام فنان اصيل. ولا ان تمحو اسماءهم وثمارهم ولا فرحهم ومرحهم ( وهم يحملون همومهم على منكب وهم سواهم على منكب ) ولا انهم يستعجلون الموت حبا منهم بالحياة، وبساطك الاخضر الساهر والسامر واحد منها.&أخي غائب&إن مدى حبي لك هو قصوري وتقصيري معاً في أن أعبر عنه، أما مدى حبك لي فهو نـفَس من انفاسك الكريمة والاثيرة والاخيرة.&اخوك محمد مهدي الجواهري&التعليقات
ذكريات لا تنسى!
خالد السلطاني -سرد جميل لأوقات وامكنة وشخوص كنت شخصيا شاهدا عليها. شكرا أيها العزيز فلاح لذاكرتك المتقدة التي ارجعتنا الى تلك الأيام البعيدة والامكنة الجميلة، والى "غائب" الانسان الرائع الذي مررت معه، أيضا، كل ما ذكره الصديق فلاح من احداث ووقائع. كن دائما بخير. وعسى ان تكون مغامرتك "الثامنة" حافلة، مثل سابقاتها، بالمرح، وبمزيد من المعرفة والصداقات!
كل ما هو جميل بدأ يغيب
فلاح الجواهري -شكرا لك يا استاذ المعمار المبدع الصديق خالد السلطانيلا اعرف كيف فاتني أن اورد الطرفة التي حدثني عنها صديقنا الفنان الراحل احمد النعمان ..لقطة من علاقتك بغائب..أذكرك بها واهديها لك وللقاريء " أوصل خالد السلطاني غائب الى باب شقته ، كعادة اصدقاءه المحبين وغائب في نشوة سكره (شبه غائب) ليطمأن على وصوله سالما..فتحت إينا الباب، وحين رأت وجه خالد الاسمر الضامر،كشرت في وجه غائب معاتبة اياه بشدة.." ها قد نزلت الآن الى مستوى منادمة الهنود في سكرك !" )
تعليق
ن ف -التعليق خارج الموضوع