طال الانتظار 70 عاما تقريبا: الرواية الايرلندية التي ارعبت المترجمين
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
&
في عام 1948 رفض ناشر رواية مارتن اوكاين الاولى المكتوبة باللغة الايرلندية وتحمل عنوان "فناء الكنيسة الطيني" او “Cré na Cille” باللغة الاصلية وقال إنها ذات طابع جويسي اكثر من اللازم (نسبة الى جيمس جويس صاحب رواية اوليس). وفي عام 1949 نشرت صحيفة آيرش بريس الرواية في اجزاء على مدى سبعة اشهر وبعد ذلك بعام عام نشرت دار سيرسيل آغوس ديل الرواية في شكل كتاب. ومنذ ذلك الوقت اصبحت هذه الرواية حديث العامة والخاصة في ايرلندا وراح الشباب يقرؤونها بصوت مرتفع لاجدادهم وجداتهم الاميين، حسب قول احد الكتاب، فيما كان طلاب الكلية يتبادلون الاجزاء التي نشرتها صحيفة ايرش بريس ويتناوبون على قراءتها ثم يهرعون الى شراء نسخة كاملة عندما تنزل طبعة جديدة منها الى الاسواق.ويقول الكاتب والناقد كولم تويبين إن هذه الرواية هي "اعظم ما كتب باللغة الايرلندية وافضل ما نشر في ايرلندا خلال القرن العشرين" كما يصفها مختصون بالادب الايرلندي بكونها "انجاز إبداعي" و "أحد اهم الاعمال في الادب الاوروبي المعاصر". وكتب احدهم يقول "كل ما يقال عن اهميتها امر غير مبالغ فيه" فيما قال الناقد شون او توما في عام 1972 إن اوكاين انتج "افضل وأغنى نص نثري كتبه ايرلندي خلال القرن العشرين عدا بيكيت وجويس". &&لكن هذا الكتاب المهم ظل سبعين عاما تقريبا دون ان يترجم الى اللغة الانكليزية ولا يمكن لاحد قراءته إلا اذا كان عارفا باللغة الايرلندية الغيلية التي ما عاد احد يتحدث بها حاليا سوى عدد ضئيل من البشر، حتى عمدت خدمة النشر التابعة لجامعة ييل الاميركية الى تصحيح هذا الخطأ التاريخي ونشرت أخيرا ترجمة تمكن القراء غير الايرلنديين من التلذذ بكلمات الفجور والشتائم والسباب التي تضمنتها وعجت بها رواية اوكاين ومن ادراك السر الذي جعل من هذا العمل واحدا من اهم الروايات الايرلندية التي نشرت في القرن العشرين.&القصةكل الشخصيات والابطال في الرواية اناس ماتوا ولكنهم يتبادلون الحديث والحوارات من داخل التوابيت التي تقبع فيها اجسادهم المدفونة في مقبرة تقع على ساحل ايرلندا الغربي خلال الحرب العالمية الثانية.كل هؤلاء تركوا عند وفاتهم عالما ريفيا صعبا كانوا فيه فقراء يحاولون كسب عيشهم من بيع طحالب وحلزونات بحرية وبطاطا كانوا يزرعونها في ارض صخرية وعرة، وبعد موتهم تواصلت حياتهم وعلاقاتهم وهم في قبورهم.ليس في الرواية حبكة او ذروة بل هي عبارة عن حوارات تجري بين عشرات الاشخاص الذين ما نلبث ان نتعرف عليهم واحدا بعد الاخر وهم يتحدثون عن مشاكلهم وهمومهم أو يتناقلون اخبار الاخرين او يغتابونهم. اهم هذه الشخصيات معلم يعتبر زوجته بغيا لانها سارعت الى الزواج بعد وفاته، ثم نورا جوني وهي امرأة كانت تمضي امسياتها مع بحارة في نوادي ميناء غالوي الليلية وتؤكد انها اكتشفت "ثقافة" أخرى داخل القبر. هناك ايضا بائع بوليصات تأمين يتحدث عن تجاربه في قرى عديدة زارها ثم امرأة عجوز تؤكد أنها ما كانت ستموت لو انها كانت تملك ما يكفي من القوة الجسدية للقيام والابتعاد عن النار التي تعثرت وسقطت فيها في احد الايام، اضافة الى شخص كان يردد دائما تحية ولاء لهتلر. ويرتفع فوق كل هذه الاشخاص صوت كيتريونا بودين المرأة العجوز الخبيثة التي طالما ازعجت شقيقتها نيل التي ما تزال حية وحقدت عليها لانها تزوجت رجلا احبته هي ايضا. وتقول في الرواية: "ظننت اني سأعيش لسنتين أخريين لادفنها قبلي، هذه العاهرة، وكانت قد وهنت بعض الشئ بسبب اصابة ابنها وظلت تتردد على الاطباء لفترة من الزمن وهي تعاني من الروماتيزم ولكن المرض لن يقتلها لسنوات اخرى، ويبدو انها في صحة جيدة هذه المومس.. ومع ذلك لو انني عشت لفترة اطول بقليل لكنت دفنتها بيدي".كل سكان المقبرة يتحاورون في كل شئ تقريبا وكأنهم في خضم حياتهم اليومية الاعتيادية لكن ما يميز هذه الرواية هو ان الكاتب يطرح الامر بطريقة عالمية جدا تظهر ان كل هذه التفاصيل إنما هي نفسها في حياة كل الناس وفي كل مكان ابتداءا ببالتيمور وانتهاءا ببكين ومنها ما يتعلق بالعمل اليومي وبصعوبات كسب القوت وبزيارات الى مناطق تسكنها اشباح وبرحلات شباب يحتسون الجعة ويمضون ساعات في فرح وزعيق وبجيران مزعجين وفضوليين وهي كلها قصص نسمعها ونسمع عنها في كل مكان. ومع ذلك كان اوكاين مدركا تماما بأنه يكتب بلغة لا يستطيع قراءتها غير عدد قليل من الاشخاص وقد قال في محاضرة في عام 1969 "الكاتب ايرلندي، وسواء اكان ذلك جيدا ام سيئا ام بلا أهمية فهو يكتب لشعبه ولشعبه فقط". ويشمل تعبير "شعبه" الذي استخدمه اوكاين مجمل الشخصيات التي طرحها في روايته والتي بدا مخلصا لها تماما.&من هو اوكاين؟&ولد اوكاين في عام 1906 في اسرة فلاحية تتحدث باللغة الايرلندية في احدى قرى الساحل الغربي لايرلندا غير انه تمكن من تجنب مصير بقية افراد اسرته بعد ان اصبح معلما في مدرسة ابتدائية ثم اعتنق الاشتراكية في بداية العشرينات واسس منظمة تنشط في مجال المطالبة بحقوق لغوية وجغرافية للاقلية المهمشة التي تتحدث باللغة الايرلندية الغيلية وبعد ذلك انضم الى منظمة ايرا وهو ما خلق له مشاكل عديدة لاحقا. ففي عام 1936 تمكن قس اختلف معه في نشاطاته من طرده من منصب مدير مدرسة ريفية وبين 1939 و 1944 اعتقلته الحكومة وسجنته بسبب نشاطات سياسية انشقاقية. غير ان هذا لم يثبط من عزيمته إذ واصل نشاطاته كما كان رغم تدهور صحته. وفي رأي اوكاين، كان الخطر الذي يتربص باللغة الغيلية بسبب اهمال الحكومة والهجرة خطرا قائما وواقعيا وكان المستقبل يبدو مظلما. وقبل وفاته بفترة قصيرة سأله صحفي عن رأيه في الاتجاه الذي يسير فيه البلد فقال بحزن "اذا خسرنا اللغة الايرلندية فسنخسر ادبنا الاصلي وسننتهي كشعب وستموت كل رؤى أجيال الشعب الايرلندي المتتالية".&تأخر الترجمةمرت فترة طويلة هي ستة وستون عاما لحين صدور ترجمة لرواية اوكاين ثم إن الترجمة صدرت في مكان بعيد جدا عن انكلترا. فلماذا؟ بعض الاشاعات تؤكد ان اوكاين نفسه كان يرفض الموافقة على ترجمتها الى الانكليزية منطلقا من سخطه على الهيمنة الاجتماعية والثقافية التي تمارسها هذه اللغة في ايرلندا.لكن البعض يؤكد ان رفض اوكاين لم يكن هو السبب الحقيقي ويشيرون الى ان ناشره سيرسيل آغوس ديل اتخذ خطوات عملية لترجمة الرواية في اوائل ستينات القرن الماضي وأرسل عقدا الى مترجمة شابة اجتازت مسابقة في الترجمة وقدمت انموذجا جيدا لمقطع من الرواية، غير ان والدة المترجمة الشابة ردت برسالة قالت فيها إن ابنتها لن تستطيع انجاز العمل لانها دخلت الدير. وبعدها حاول الناشر اقناع الشاعر توماس كنسيلا بترجمة الكتاب غير ان الشاعر الذي اكد انه تشرف باختياره لترجمة الرواية كتب في عام 1963 في رسالة يقول "إن هذا العمل صعب للغاية لاسيما وانه يتعلق برواية لها هذا الصيت وهذه السمعة وتوقع ان يستغرق الامر سنوات طويلة" ثم اعتذر عن انجاز العمل. وبعد ذلك بفترة قصيرة وافق شخص كان الكاتب اوكاين قد التقاه في السجن على القيام بالمهمة بمساعدة شخص من الاقلية اللغوية الايرلندية ولكن، عندما انتهى من الترجمة وعرض المخطوطة في عام 1967 أصيب الناشرون بصدمة: كل شخصيات الرواية يتحدثون بلهجة دبلن الدارجة .. فرفضوها.
ضحية مكانتهاتملك دار النشر ايار تشوناشت حقوق التصرف بالرواية منذ عام 2009. وقال مؤسس الدار مايكل اوكونغيل إن مالك الحقوق السابق كاومهين اوماركيغ الذي حصل عليها من ناشر اوكاين، سيرسيل آغوس ديل، في عام 1981، تجنب اي مسعى لإصدار الرواية باللغة الانكليزية لانه أراد على الارجح "أن يكون متأكدا بنسبة 200% بان الترجمة ممتازة". وعندما توفي اوماركيغ في عام 2014 اكد ابنه فياتشرا بأن والده "كان مدركا لصعوبة ترجمة مثل هذه الرواية واعطائها حقها في لغة اخرى" وكان ايضا مدركا "للضغوط المصاحبة لمنح الموافقة على عمل مهم مثل هذا" لعلمه ان أول صدور لهذه الرواية باللغة الانكليزية سيقضي على تاريخها كله إن لم يكن بالمستوى المطلوب. وقد استمر رفض ماركيغ ترجمة الكتاب لثلاثة عقود حتى اشترى كلو يار تشوناشت شركته في عام 2009، على امل الحصول على حق التصرف بالرواية، حسب قول اوكونغيل.&
نسختانبعد كل هذا، صدرت فجأة نسختان عن الرواية باللغة الانكليزية. الاولى في آذار 2015 وحملت عنوان "الغبار القذر" والثانية صدرت في آذار الحالي 2016 وتحمل عنوان "طين المدفن" ونلاحظ ان الترجمتين تختلف احداهما عن الاخرى اختلاف الكبير والصغير وهو ما ادى الى قتل فكرة ما يدعى بالترجمة "الممتازة". ففي منتصف الستينات كان ليام ماك كون ايومير، مترجم "طين المدفن" البالغ من العمر الان 78 عاما، كان يتردد على بار اوكاين المفضل في دبلن وكان يحتسي مع اصدقائه الجعة ويسترقون النظر الى الكاتب سرا وقال "كنا معجبين به" واضاف "كان يعتبر مثل اله، كان يعتبر افضل كاتب بالانكليزية والايرلندية". وقال المترجم لصحيفة نيويوركر "ثراء الرواية واللغة وموقعها في الادب الايرلندي، شكلا تحديا كبيرا بالنسبة لاي مترجم وأثارا هلع اي مغامر في هذا المجال على مدى عقود. لا احد يريد المغامرة وارتكاب خطيئة ترجمة اهم رواية باللغة الايرلندية" وقال ايضا "يشبه الامر ترجمة رواية اوليس الى الايرلندية. المسألة مرعبة ولا تحتمل الخطأ على الاطلاق".كان ذلك في بداية الالفية الجديدة عندما لاحظ ايومير والمترجم الذي شاركه تيم روبنسون مقالة في صحيفة ايرش تايمز دعت فيها الراغبين الى التقدم لترجمة الرواية فقررا المجازفة. وقال ايومير انه شعر "بالخوف الى حد ما" لانه كان مدركا تماما لمستوى التوقعات ولان اللغة التي استخدمها الكاتب تمثل لوحدها تحديا كبيرا، ولكنه وضع الخوف جانبا وقرر التقدم، ثم كتب في مقدمة "طين المدفن" يقول "إن صعوبة اللغة التي استخدمها الكاتب هي التي دفعت المترجمين بعيدا عن الرواية".&اما ألان تيتلي الذي ترجم النسخة التي صدرت العام الماضي "الغبار القذر" فكان يتردد هو الاخر على بار اوكاين المفضل في دبلن عندما كان شابا ثم اصبح بعدها خبيرا في الادب المكتوب باللغة الايرلندية وكاتب قصص بهذه اللغة نفسها وهو يعرف جيدا سمعة رواية اوكاين غير انه قال إن عظمة الكتاب لم تشعره بالخوف على الاطلاق.&ويعتبر نقاد ان الترجمتين مختلفتان الى حد بعيد فالغبار القذر خرجت من اطار اللغة الايرلندية تماما وتميزت بثراء لغوي عكس ثراء المترجم نفسه حتى ان المرء لا يعرف اي جزء من الرواية لاوكاين وايها لتيتلي.&اما النسخة الحديثة "طين المدفن" فحافظت على الاصل بشكل اكبر واعتمدت مبدأ "الامانة" اكثر من اي شئ آخر. ويلاحظ نقاد ومؤرخو أدب ان من الافضل في نهاية الامر ان تكون هناك اكثر من ترجمة لنص واحد لان ذلك يمنح الاصل ثراءا اوسع.
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف