أوجاع العراق ومآسيه من خلال "انفرادات" عبد القادر الجنابي
حسونة المصباحي
-
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام إضغط هنا للإشتراك
&ترى ما الذي حدث لكي يتحول العراق من بلاد مسكونة بالأماني والأحلام والطموحات الى بؤرة توتر مرعبة،والى ساحة شاسعة للحروب والمعارك المدمرة بين الطوائف،وبين الملل والنحل.بلاد تشتعل فيها الحرائق ،وترتكب المجازر الفظيعة على مدار الساعة ،وفيها تزداد الأحقاد والضغائن ضراوة يوما بعد آخر بحيث يمكن القول أن كل ما يمت بصلة للمحبة،والتآخي، والتضامن،والتوافق قد آضمحل او يكاد..ترى ما الذي حدث ،وبغداد ،"مدينة السلام" التي تتوسد النهرين منذ قرون طويلة باتت مدينة أشباح ،تفصل الأسلاك الشائكة بين احيائها،وينظر سكانها الى بعضهم البعض بريبة وحذر لأن الخوف والموت عششا فيها ولا يدري أحد متى تنتهي الكوابيس المرعبة التي تعذبها في النهار كما في الليل...ترى ما الذي أفسد الحياة في العراق الجميل ليهجره شعراؤه وفنانوه فيصبح موطنا للقتلة والمجرمين من كل الأصناف …ترى ما الذي حدث والحال أن العراق كان من البلدان العربية القليلة المبشرة بالأمل ،وبحياة أفضل.وفيها برزت أول "رجة" شعرية وفنية كان لها وقع وصدى في بلاد العرب من مشارقها الى مغاربها فبات الجميع يتطلعون الى بغداد التي تأتي منها قصائد بدر شاكر السياب ،ونازك الملائكة ،وبلند الحيدري،وعبد الوهاب البياتي لكي يستنيروا بها في بحثهم عن الطريق الى المستقبل المشرق...كثيرة هي الكتب التي الفت حول كوارث العراق ومآسيه منذ آنهيار النظام الملكي في صيف عام 1958 وحتى هذه الساعة مرورا بالفترة التي حكمها فيه صدام حسين بالحديد والنار.غير أن كتاب "أنفرادات " للشاعر العراقيء عبد القادر الجنابي المقيم في باريس هو من أفضل الكتب التي تقدم صورة عن "الحقيقة" بحسب تعبير الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر .والمختارات التي تضمنها هذا الكتاب الذي صدر في التسعينات من القرن الماضـي ،أي في الفترة التي كان فيها العراق يعيش حصارا آقتصاديا مخيفا، لا تعكس فقط تجارب ومحن شعراء جيل الستينات من القرن الماضي،بل تقدم لنا صورة فريدة من نوعها عن العراق الجريح والشهيد ،وعن كل ما عاشه خلال عقود الجمر والرماد...وجيل الستينات هو ذلك الجيل الذي برز للوجود بعد آنهيار النظام الملكي ،وقيام النظام الجمهوري.ومنذ البداية،تمرد هذا الجيل على الشعراء المجددين الذين سبقوهم ،رافضين مفهومهم للكتابة الشعرية،ومُقرّين العزم على الذهاب بعيدا في التجريب ،وفي تفجير اللغة،وفي آطلاق الخيال لكي يلامس أبعد الشطآن ،وأعلى القمم.إنه الجيل الذي رفض نواميس الحياة التقليدية،وقواعد العائلة المحافظة ،المنغلقة على نفسها، مفضلا العيش في المقاهي والحانات، فيها يمضي نهاراته،ويسهر لياليه وهو يقرأ رامبو،وبودلير،ولوترايامون والسورياليين،وجويس،وبيكت، متعرفا على تيارات الفن الحديث متجسدا في بيكاسو،وماتيس،وفارنان ليجي،ومارسيل دوشامب،وفي افلام كبار المخرجين الغربيين الطلائعيين.ولهذا الجيل مواصفات كبار المتمردين الذين يرفضون كل شكل من أشكال السلطة ،سواء كانت عائلية،أم سياسية ،ام ايديولوجية.وقد أنتسب البعض من هؤلاء الى الحزوب الشيوعي في فترة شبابهم،ومنهم من آلتحق بمنظات ثورية فلسطينية،غير أنهم ظلوا مع ذلك محافظين على تمردهم.وعندما يعاينون أن آستلقلاليتهم باتت مهددة ، يعودون من جديد الى ذواتهم ليبحثوا فيها عن ما يمكن ان يزيد تمردهم توهجا.وقد غذت الصراعات السياسية والإجتماعية التي كانت تعيشها العراق في فترة نموهم ،وبروزهم في المشهد الثقافي أشعارهم لذا جاءت محملة بكل ما يعتمل في صدورهم من غضب تجاه الأحزاب ،وتجاه كل ما يتراءى لهم منافيا للمبادئ التي آلتزموا بها في حياتهم،وفي مواقفهم ،وفي كتاباتهم.واغلب أبناء هذا الجيل "الضائع" عاشوا التشرد ،وآختاروا المنفى وطنا لهم خصوصا بعد أن آستبد البعثيون بالسلطة في نهاية الستينات من القرن الماضي.ووفي المنافي،عاشوا الغربة الروحية في أقصى معانيها.ومن بعيد ،كانوا يتابعون ما يحدث في بلادهم من مآس وكوارث فيزيد ذلك في تعميق غربتهم وعذاباتهم.لذا مات البعض منهم بالسكتات القلبية،وبأمراض خبيثة ومستعصية من دون أن تتوفر لهم فرصة العودة الى وطنهم.عن هذا الجيل كتب الشاعر والكاتب فاضل العزاوي الذي يقيم في برلين منذ السبعينات من القرن الماضي:ماذا أفعل يا جيلي؟وأنا أشهد جيلي يجلس في مقهى"العظماء"* ،يدخن إفيون الحرية ،يسحب جثته كالاعمى بين البارات ،يسيل الزهريّ على كفيه إذ الجلادون يطوفون رؤوس المدن المغسولة بالنيران الأبدية.&وفي مقطع آخر من نفس القصيدة يقول فاضل العزاوي:ماذا أفعل يا جيلي؟وأنا أسمع أجيالا تهبط في جرح الوردة ،اشباحا تسبح في دجلة مثل طيور من ذهب،ثم تغني وتموت لأن العشاق يموتون من الحزن إذا لم يجدوا وطنا يأوون إليه كما يأوي الغرباء الى اوطان الغرباء .ومحددا خصائص شعراء جيل الستينات ،كتب عبد القادر الجنابي في مقدمة "آنفرادات"، يقول :”الشاعر العراقي يحمل تاريخا مليئا بالدم.إنه إنسان تتشابك شرايينه في شعاب الخيال الكوني لمواجهة هذا الموت العام الذي يجعل نشاطه منذ كلكامش ،بحثا عن مثوى للقصيدة.ورقة للتاريخ يتجلى على صفحتها معنى مجيئه للعالم".ويشير عبد القادر الجنابي الى أن القطيعة الشعرية التي أحدثها جيل الستينات مع جيل الرواد كانت "باتجاه القصيدة ،وليس بآتجاه ايديولوجيا بديلة ،قطيعة معرفية قوامها:على الإبداع أن يقصي عن وظيفة فطرته للتغيير أي غرضية اجتماعية مقصودة يفرضها بؤس الأدراك الإيديولوجي للواقع المعطى .لأن في الإبداع الحر من الفكار الهدامة ومن لهب النيّة الثورية ما يقطع عليه انفاسه فلا يسعه إلاّ الإندفاع الى رحب الشوارع مهدما مواخير الوضع الراهن وممزقا اعلامه الدنيوية والزمنيّة".والشعر الستيني بالنسبة لعبد القادر الجنابي "مغامرة في فخاخ العقل الغامضة والمسالك الوعرة بين الماضي والحاضر والمستقبل حيث توجد خطوط ثابتة وأكف مقطوعة وعذاب تجريديّ ورحلة غير مؤكدة".وكان على الشاعر عبد القادر الجنابي أن يمضي أزيد من عقدين في المنفى لكي يعود الى تجربة جيل الستينات في الحياة وفي الكتابة مقدما صورة دقيقة وشاملة عنها.وومن خلال السير التي خصصا لكل واحد من ابنائه ورمزوه ،ندرك أن الجنابي عاش عن كثب كل خفايا جيله،ومعهم تذوق الحلو والمر،ومثلهم عاش الرجات والاحداث المأسواية التي توالت على بلاده سواء في الفترة التي كان يعيش فيها في بغداد،أوبعد أن آختار العيش في باريس.وفي المقدمة البديعة التي خصصا لكتابه ،يشير الجنابي الى انه غادر العراق مسكونا بالأحلام،وبالرغبة في آكتشاف الحياة الوروبية التي كانت تبهره من خلال ما يقرأه من كتب،وما يستمع اليه من موسيقى ومن اغان،وما يشاهده من افلام.وكان عليه ان يزور العاصمة النمساوية فيينا بحثا عن آثار آبنها المتمرد الجميل كارل كراوس الذي عكس من خلال كتاباته المرة والساخرة واللاذعة مثل صفعات تفاجئنا في عتمة سراديب الحياة ،ما كان يعتمل في هذه المدينة من أفكار ومن جنون ومن فلسفات ومن هذايانات تسبق آنهيار الإمبراطوريات العظيمة.وفي باريس حيث آختاران يقيم،عاش الجنابي العديد من التجارب ،مطلقا مجلات وأفكارا ترضي تمرده وجنونه وطموحاته ،وتحقق الكثير من احلام جيله الذي لم يتسع له الوقت ولا المكان لكي ينجز وللو القليل منها .وفي صباح من صباحات عام 1991،وعندما غرق العراق من جديد في حرب قذرة،نبتت في رأس الجنابي فكرة اعداد انطولوجيا عن شعراء جيل الستينات.وها هو يشرع في العمل ليجمع الوثائق،ويتصل بأصدقائه القدامى ،ويبحث في المجلات وفي الجرائد القديمة عن نصوص لم تنشر في كتب ،او هي اهملت فما عاد يتذكرها احد.وقد جاءت المختارات لتملأ فراغا في زمن كانت فيه الحروب المتتالية قد عطلت عمل الذاكرة فما عادت قادرة على آستحضار الماضي ،والحاضر،ولتؤرخ لفترة من "أخطر فترات وعي عاشها العراق الحديث على جميع المستويات ،وأخصبها تمردا على الرسمي وتقاليده الإجتماعية المعطاة" كما يقول الجنابي .من خلال"آنفرادت" ،نتعرف على روح العراق،وعلى تاريخه ممزقا ومشظى،وعلى شعرائه وهم يسامون الوانا من العذاب النفسي والجسدي في بلادهم ،أو هم موزعون في المنافي يداوون جراحهم بالشعر والكأس.وقد كتب عبد القادر الجنابي سير هؤلاء جميعا بطريقة مكثفة وبديعة من دون ان يغفل عن ذكر تفاصيل حياة كل واحد منهم.لكأنهم شخصيات في فيلم عن العراق بالأبيض والأسود!&&*مقهى العظماء :التسمية الساخرة التي كان البعض يطلقها على "مقهى مجيد" في بغداد الذي حمل فيما حمل بعد اسم "مقهى ابو ابراهيم"،و"مقهى ابراهيم"،اضافة الى التسمية الساخرة الاخرى:”مقهى المعقدين".
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
قدره الملعون
عبد اللطيف البغدادي -
بدأ خراب العراق الفعلي للعراق بعدما تسلم صدام حسين السلطة عبر خوضه حروبه الداخلية و الخارجية العبثية و بالتوالي ،و بعد عملية الغزو و الاحتلال جاءت الأحزاب الإسلامية الفاسدة و ذات النزعة الطائفية وفلول البعثيين الانتقامية لتجهز على ما تبقى من العراق ، ومن سوء حظ العراق لم يحكمه زعيم وطني شريف و نزيه غير عبد الكريم قاسم الذي كان ذو عقلية عسكرية و فردية ، بالرغم انحيازه الكامل للفقراء وشعوره الوطني الأصيل و تساميه على الطائفية والمذهبية ، فنأمل بأننا ربما قد ستطعنا تقديم بعض الأجوبة على أسئلة السيد الكاتب مع أن المسألة أعقد بكثير من تتوضح بهذه الصورة الغائمة من العجالة و الاختزل بعض الشيء أما بالنسبة للشعراء الآنفي الذكر فأنهم مجددون للشعر العراقي بالفعل و خاصة على صعيد قصيدة النثر العراقية التي اتخذت أبعادا إبداعية واسعة ومدايات عميقة على أيديهم