وعيٌ على ذكرياتي: ضياع في الخرطوم
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
&
قفز رجل كهل ملتح بجلابية طويلة متسخة، مرقعة بقطع ملونة من اقمشة منوعة و وقصاصات ملصوقة فوقها، بآيات وحروف لا رابط بينها وكانت عشرات من الاشرطة الخضراء المتفاوتة الطول تتدلى من كل اجزاء هذا اللباس المهلهل من رقبته واردانه واذياله.. قفز ونحن نعبر جسرا على النيل الابيض صوب السيارة التي تقلنا ورش الماء من ابريق في يمينه على الزجاج الامامي.. انحرفت السيارة التي كانت تعبر متباطئة فوق الجسر كي لا ترتطم به، واتانا صوت هذا الدرويش متوعدأ:" جاكم الموت يا تاركين الصلاة ".. " جاكم الموت يا تاركين الصلاة "جرني المنظر والوعيد الى سرحان للحظة قصيرة لاستوعب الصورة في الوقت الذي ابتسم فيه تاج واسماعيل الجالسان الى جواري.. أخذ السائق يتمتم بأدعية ويردد بينها بصوت مسموع " لا إله إلا الله، محمد رسول الله "..&حين نزلنا في ساحة وسط (أم درمان)..&-ما قصة هذا الممسوس؟ سألت تاج.&- اياك يا صاحبي ان تكرر ذلك بصوت عال أمام بسطاء الناس في أم درمان، وإلا اعتبروك تسخر من رجل كراماتهم، أن البعض منهم يعتبره من اولياء الله الصالحين، إن ما شاهدته من مئات الاشرطة الخضراء الحريرية الملتصقة بثيابه قد ثبتت من طلاب الحوائج المستعصية الآملين في حلها بمعجزات (الرجل الصالح)كان تاج واخيه قد اصطحباني لاشاهد الانصار - رجال الطائفة المهدية- وهم في مسيرتهم في ذكرى معركة كرري (وفق التقويم الهجري) والتي قتل فيها قرابة مائتي الف من السودانيين المدافعين عن وطنهم ضد جيوش الاحتلال البريطاني.&ونحن نقترب من مكان لقاءنا ببقية الصحب ممن كانوا معنا في رحلة النيل، طلب مني تاج أن التفت الى الجهة الثانية من الشارع..&.. أمام فسحة كبيرة لبيت كبير ذو طابقين، يجلس رجل كهل بجلابية واسعة بيضاء ولفة راس سودانية كبيرة وراء طاولة معدنية صغيرة مدورة.. يقف وراءه شاب في العشرينات من عمره.. " اسماعيل الازهري " قال لي تاج وهو يواصل السير، دون ان يلتفت صوب الجانب الاخر..&توقفت بعد عدة خطوات عند ركن زقاق قريب، في حين واصل تاج واخيه سيرهما.. كانت حركة المارة على الجانبين من الشارع اعتيادية تماما...... ارقب واتابع من موقعي (الازهري)- رئيس مجلس السيادة في السودان- في جلستة قرب الرصيف امام داره.&.. يتباطأ افراد قلائل بين فترات غير قصيرة.. يرفعون ايديهم -وهم يواصلون سيرهم- بالسلام مع انحناءة رأس خفيفة صوب الجالس.. ينهض الازهري قليلا عن كرسيه ويجيب التحية واضعاً راحته اليمنى فوق رأسه.. يعود الى مكانه.. دقائق اخرى ويتكرر المشهد ذاته مع شخص مار آخر..&.. تقترب منه إمرأة مسنة، ينهض ويميل برأسه صوبها مصغيا.. يهز براسه من حين لآخر.. تخرج ورقة مطوية من بين لفائف ارديتها.. يأخذها ليلتفت ويسلمها الى الشاب الواقف وراءه.. يحادثها لحظات ويحني رأسه واضعا راحة كفه فوقه.. تحاول المرأة أن تأخذ بيده وتنحني تريد تقبيلها.. يسحب يده ويرتد الى الخلف قليلا..&.. يخرج شاب من باب داره، حاملا صينية معدنية صغيرة وفوقها دلة قهوة وقدح ماء.. يضعها امامه فوق الطاولة ويعود.&اغادر مكان ترصدي لالتحق بتاج واسماعيل..&التقينا ببقية الصحب وجلسنا في مقهى تناثرت اكثر مقاعده فوق رصيف الشارع..&.. لم تمض إلا نصف ساعة حتى لاحت من بعيد موجة اردية وعمائم بيضاء.. مرت المسيرة من امامنا يتقدمها بضع عشرات تتدلى السيوف القديمة على جوانبهم من حمائلها.. يسير خلفهم عشرات آخرون بإحرامات تلتف على اجسادهم السمر العارية، يتبعهم الآف بالزي السوداني التقليدي الابيض.. لم تكن هنالك اية اعلام او لافتات مرفوعة..&.. علت من بعض المتابعين الواقفين على رصيفي الشارع تكبيرات بالاسماء الحسنى، في الوقت الذي كان فيه افراد المسيرة يمشون بصمت خاشع.&
* * *&
توجهنا في أحد الاماسي أنا وتاج بعد عودته من العمل، الى جامعة الخرطوم.. كانت هنالك ندوة انتخابية هامة.. القاعة الكبيرة الانيقة قد امتلئت بالحضور.. نسوة معظمهن من الجامعيات، الاكثرية في الزي السوداني.. بعضهن يرتدي الزي الاوربي، فارعات الرؤوس.&.. لم الحظ على اي منهن مكياجا ظاهرا.&.. الرجال وهم الاكثرية في القاعة، يغلب الزي الوطني على ارديتهم.. آخرون وهم القلة بالزي الاوربي.&.. همهمات، ومقاطع لاحاديث متفرقة واصوات ضحكات مرحة هنا وهناك.. ضجيج غير صاخب.&.. على المنصة ثلاثة مقاعد وراء طاولة بغطاء ابيض واقداح ودورق ماء.&.. صعد شاب بالزي الوطني، يبدو انه عريف الندوة، وحيى الحضور واوضح اهمية هذا اللقاء بقادة الاحزاب السياسية، قبيل الانتخابات القادمة..&.. رحب بمتحدثي الندوة الجالسين في الصف الاول ودعاهم لاعتلاء المنصة.&.. علا تصفيق الحضور لفترة غير قصيرة، حتى بعد أن أخذ متحدثي الندوة اماكنهم وراء المنضدة.&.. علا القاعة صمت انتظار.&الصادق المهدي (إمام الانصار.. خريج اوكسفورد وكاليفورنيا في الفلسفة والاقتصاد) كان اول المتحدثين..&.. شاب وسيم، طويل القامة بملابس وطنية وعمة كبار رجالات الطائفة المهدية البيضاء.. متحدثا كزعيم لحزب الامة:.. ".. سودان حضاري بهوية اسلامية نرقى به بالعلم والمعرفة وبالوحدة الوطنية.. "&
عبد الخالق محجوب (سكرتير عام الحزب الشيوعي) شاب مربوع القامة ببدلة اوربية بوجه طفولي هاديء:.. " سنجد هوية سودانية للماركسية.. نستفيد من تجاربها في الدول الاخرى.. لا نقلد ولا نتبع.. "&
اسماعيل الازهري (رئيس وزراء سابق.. رئيس مجلس السيادة الحالي.. رئيس الحزب الوطني الاتحادي) رجل كهل لا تختفي الابتسامة عن وجهه، كان آخر المتحثين:" وحدة وطنية في اطار ديمقراطي.. لا عودة الى ديكتاتورية الحكم العسكري.. بلد آمن ينعم مواطنوه بالديمقراطية كي يبدعوا في العلم والمعرفة ويلحقوا بالامم المتحضرة "كانت هذه خلاصة افكار المتحدثين المطروحة، أعقبها اسئلة الحاضرين، يجيب عليها المعني بها من متحدثي الندوة..&.. لم اسمع اي سؤال يحمل استخفافا او استفزازا لاية فكرة طرحت.&.. لم تكن هنالك اية لافتات مرفوعة اوهتاف بـ " يسقط !.. " او "يعيش !.. ".. بل لم يكن هنالك اي هتاف خلال ثلاث ساعات واكثر من الندوة.&
(ادفع مقبض عجلة الزمن التي امتطيها الى الامام.. مات اسماعيل الازهري بعد اعتقاله بأيام في انقلاب مايو 1969 وايداعه سجن كوبر.. أعتقل الصادق المهدي بعده واودع السجن مرات عديدة.. توفي التجاني الماحي قبل أن يعلقوا صديقه عبد الخالق محجوب مشنوقا بحبل غليظ في سجن كوبر.. ابتعد محمد احمد محجوب عن مطحنة السياسة.)
&* * *
.. كنا نستلقي أنا وتاج كل فوق سريره نستمتع بنسمات الليل الطرية، نكشف كل لصاحبه بعض اسرارنا العاطفية تتخللها تعليقات ونكات عابرة فنضحك..&توقفت سيارة امام باب (البراني)..&.. طرق الباب المفتوح شاب اسمر ببنطال وقميص مفتوح عند الصدر.. نهض تاج لاستقباله في حين عدّلت من وضعي على السرير لاجلس على حافته..&-أهلا بالساتي.. والله زمان يارجل.. عانقه تاج مرحباً، وواصلا اقترابهما مني وقبل ان يبدأ بتعريفنا ببعضنا البعض.. صرختُ فرحا- اهذا انت يا ساتي، وعانقته بحرارة.&.. تعود معرفتي بالساتي عثمان الى أيام دراستي في ثانوية الخديوي توفيق في حلوان في مطلع الخمسين.. كنا في نفس السنة الدراسية، ثم مرت سنين قبل ان نلتقي من جديد في موسكو هو في كلية الري، وانا في كلية الطب.&.. لم تكن لقاءاتنا هناك إلا صدفاً، حين ازور ابن خالتي الذي يسكن عمارة اقامة الطلبة ذاتها.&.. بعد ثلاث سنوات في عمارة الطلبة ذاتها التقيته مرة اخرى.. عرفني على شابة جميلة الى جانبه.. " اولغا زوجتي.. تزوجنا قبل اشهر ".&لم يطل مكوث الساتي عند تاج طويلا، معتذرا بأن عليه أن يأخذ اولغا من محل الكوافير، مصراً في الوقت ذاته، الى حد القسم بالايمان، على انه لن يغادر الدار دون صحبتي، للانتقال والسكنى معه في داره.&عارض تاج كثيرا، واخيرا وضع الامر بين يدي.&كنت قد اطلت اقامتي الحلوة الكريمة عند تاج.. اسابيع ثلاث، وبدأت اشعر ببعض الحرج، اضف الى ذلك، معرفتي بأن تاج سيغادر بعد فترة قصيرة ويبقى مدة اسبوعين في مدينة أخرى في مهمة لتدريب كادر من الموظفين في مركز بريدي جديد يفتح هناك..&.. قبّـلت تاج وشكرته على الضيافة بالغة الكرم والصحبة الجميلة، واستأذنته أن يستجيب لطلب الساتي.&لم يكن ترحاب اولغا بلقائي دافئا حين ذهبنا لاخذها من محل الكوافير.. كانت مضمّخة بالعطور وروائح المكياج الكثيف على وجهها.. على جانب كبير من الجمال والوسامة التي افتقر اليها زوجها.. شقراء بعينين شهلاوتين وشفتان ممتلئتان صغيرتان، رشيقة ممشوقة القوام حسنة الهندام.&كانت شقتهما في الدور الرابع من عمارة حديثة في حي بطرف قصي من الخرطوم.. ما أن دخلت الى الشقة حتى ضاق نفسي واحسست اني غريبٌ في مكان غريب.. صالة وغرفتي نوم، مطبخ وحمام حديثين صغيرين، اطلعني الساتي عليها، واضعا حقيبتي الصغيرة في غرفة النوم الجانبية.&جلسنا أنا واياه في الصالة المؤثثة بكنبتين كبيرتين ومقعد جلدي وثير على حين اعتزلت اولغا غرفتها.&استرجعنا مسيرة الذكريات من ايام حلوان الى موسكو الى تفاصيل اوجزتها عن رحلتي وعن ظروف لقاءي بتاج وشرف واسماعيل وغيرهم&.. نهض وتوجه الى غرفة اولغا.. التقطت كلمات مبتورة من حديثهما الخافت، ادركت منه انه يعاتبها على طريقتها في لقاءي و برود استقبالها لي في الدار.. زاد احساسي بالغربة.&خرجت اولغا على مضض وسخنت الطعام الذي كان الساتي قد احضره من أحد مطاعم العاصمة.. تناولنا عشاءنا في المطبخ حيث كانت هنالك طاولة صغيرة حولها اربعة مقاعد.. ادار ساتي الحديث بصورة حاول فيها ان يخفف من تشنج زوجته الذي لم تستطع اخفاءه، غلبت على الحديث اللغة الروسية.. أولغا لاتعرف الا بضع كلمات في العربية.&.. حين اويت الى فراشي.. كانت الظلمة تطبق على انفاسي، فلا سماء ولا نجوم فوقي ولا الانسام الطرية في البراني الفسيح في بيت تاج الدين، ولا همس المدينة الخافت النعسان من حولي هناك والذي كان يحاورني قبل اغفاءتي.&في الصباح عندما كان يعد القهوة والافطار، سالني ساتي عن راحة فراشي ونومي فاجبته بانه كان رائعا.. لا اعلم هل كانت عيناي المتعبتين تشيان بكذبي ام لا، فلم استطع ليلتها الاغفاء الا قبل قرابة الساعة من سماعي صوت الساتي وهو يسعل في المطبخ، لانهض على عجل فمن المعيب أن أظل مع غالا &- التي لا تعمل &- لوحدنا في الشقة..&ركن السيارة عند باب دائرة عمله وسط المدينة.. دعاني للدخول لشرب فنجان قهوة في غرفته هناك.. هنا اصبح اكثر انطلاقا وحرية، بل عادت اليه الابتسامة والنكتة التي كنت اعهدها فيه قبل سنين طويلة.&حين بدأ بعض الموظفين بعرض اوراقهم وملفاتهم عليه، ادركت ان الوقت قد آن لاغادر.. شكرته وغادرت.&.. لكن الى اين والخرطوم الكسلى في الصباح تغلق مقاهيها ومحلاتها.. اين والشوارع تكاد تخلو من المارة..&.. هذا هو المقهى الذي اعتدت جلوسه.. تخوته الخشبية في العراء لا يزال يغفو عليها من لا مأوى له، مسافر عابر او متشرد.. يتركها اصحاب المقاهي متاحة دائما لمن يريد الاستراحة او النوم بعد اغلاق المقهى..&.. اجلس فوق تخت خشبي في انتظار صحو الاخرين قربي، وقدوم صاحب المقهى وعماله ليفتحوا الابواب ويضعوا طاولات وكراس على الرصيف ويباشروا اعداد الشاي والقهوة والقرفة وغيرها..&.. حين كنت اقيم عند تاج، كان يخرج الى عمله كل صباح ويتركني مستلقيا او جالسا فوق سريري في الباحة المكشوفة مفتوحة الباب للضيوف ولانسام الصباح الطرية..&.. اصحو فأجد صينية افطاري الى جانبي.. غالبا ما أظل بعدها مستلقيا، اقراكتابا او اتصفح مجلة او جريدة وعند الضحى اخرج الى المدينة فاتابع أمر تعييني اولا..&-كل شيء تمام يادكتور.. امر التعيين جار في مساره.. هو الآن في الشؤون الادارية..&بعد ايام:- كل شيء تمام يا دكثور.. هو في شؤون الموظفين.&يمر اسبوع وثان- كل شيء تمام لقد احيل الطلب الى وزارة المالية لتخصيص ميزانية الراتب.&.. أعود بعدها لاجلس في مقهى البلدية وسط الخرطوم على كرسي فوق الرصيف، اقرء كتابا او ارسم تخطيطا لاحد الجالسين وأقدمه له.. يعرضه على صحابه حول المائدة.. يبدون استحسانهم وترحابهم ويدفع اجر فنجان قهوتي.&
.. لكن المقاهي لا تزال مغلقة ياساتي، وانا متعب لم أنم ليلة أمس والكآبة واحساس الغربة بدءا يثقبان في سطوح الفكر لاول مرة من وجودي هنا..&.. مر النهار كله، وانا اتسكع في زوايا المدينة.. لا مجال للعودة واولغا لوحدها في الشقة.. لا اعود إلا في المساء بعد ان اكون قد تناولت وجبتّي الغداء والعشاء تجنبا لاحراج الرجل الطيب في جلسة كجلسة امس تُـرغم فيها زوجته الى الجلوس وراء الطاولة مجاملة للضيف الثقيل..&.. اعود فأجد البيت مشحونا وآثار الشجار لا تزال عالقة في أجواءه.. اهرب مبكرا لأستلقي على سريري واحملق في السقف طويلا في انتظار ان ينشق عن تلامعات فوانيس ملايين النجوم في قبة السماء العاتمة الزرقة او لجين القمر الذي كنت اسيح فيه وأنا فوق سريري عند تاج..&دعاني ساتي في احدى الليالي للذهاب معهما الى نادي الموظفين.&كان النادي جميلا واسعا باشجار باسقة ومربعات للزهور رتبت بذوق واناقة.. لكن جلستنا كانت غريبة مستوحشة فنحن الوحيدين المنعزلين وراء طاولة صغيرة قصية بين عشرات الموائد الاخرى الضاجة باحاديث العوائل واطفالها واصدقاءهم المنظمين الى موائدهم وضحكاتهم وتنقل افرادها بين مائدة واخرى، فالكل هنا يعرف الكل، بل وقد يرتفع من حين لآخر موآل خافت جميل من احدى هذه التجمعات..&تجلس غالا مقطبة غير راضية، وكأنها مضطرة الى احتمال هذا الجو (البدائي الهمجي).... لا تستطيع اخفاء معالم اشمئزاز وجهها احيانا.. نحاول انا والساتي أن نستقطر ضروع حديثها الجافة المبتسر.&.. حين دعاني مرة اخرى للخروج معهم الى النادي اعتذرت، متعللا بأن علي كتابة بعض الرسائل.&.. نقودي القليلة اصلا قد شحت في جيوبي.. لا مجال لانتقالي الى فندق رخيص.. في الوقت الذي أخجل فيه من العودة الى بيت تاج الغائب في مهمته في مدينة اخرى، رغم وجود اسماعيل الذي سيكرمني بعينيه لوعدت.. أضف الى ذلك انني ساوجه صفعة عنيفة لصديقي الوديع الساتي، الذي اراه يبذل كل مافي استطاعته لتخفيف اجواء الشقة المشبعة بالمشاحنات والتوتر الدائم.&.. اواصل تسكعي بين المقاهي او التجوال فوق الارصفة كل يوم من الصباح الباكر والى المساء، بل وطرفا من الليالي كي اتجنب الازمة القائمة ابدا بين غالا والساتي.&.. اتتبع مسار زحف أمر التعيين:-والله يادكتور كله ماشي تمام.. شويةْ وقت وشويةْ صبر، يجيبني موظف شؤون التعيينات في وزارة الصحة.. اشكره واغادر..&.. العن هفوة لساني الغبية الحمقاء عندما سالني وزير الصحة وانا في مكتب رئيس الوزراء " - هل لك مكان تقيم فيه؟ فيجيب الغبي الاحمق، أنا.. &- نعم واشكر لطف سيادتكم ".&عدت متأخرا الى الشقة ليسبقني الى الباب صوت غالا الغاضب:-اختنقت.. اختنقت.. هل تفهم معنى اختنقت ايها الغبي.. اريد الخروج.. لايهم الى اي مكان حتى لو كان الجحيم ذاته..&-الى اين في هذه الساعة من الليل؟.. لا استطيع الخروج أنا متعب وعندي تقرير عليّ تقديمه الى الوزارة عند الصباح.&اكيد أن اصوات الشجار العنيف قد اخترق جدران الشقة الى الجيران لصقهم.. " حمدا لله أنه بالروسية، وإلا فسيبصقون على الارض امامه لرضوخه لهذه المهانة المقرفة يوميا.. نحن بالسودان المحافظ المتزن ذو التقاليد العائلية العريقة المتينة.. ".. اسرح قليلا بافكاري وانا اعود متسللا كاللص على حذر لاهبط سلم العمارة..&اعود الى باب الشقة بعد نصف ساعة، فلا اسمع صوتا.. " حمدا لله لقد هدأت اللبوة الغاضبة.. لقد آوت الى فراشها اخيرا "..&.. ادخل لاجد غالا في كامل لباسها وزينتها، تبحث عن حقيبتها اليدوية لتخرج.&-لكني لن اوصلك الى السينما بالسيارة، والليل غير آمن ونحن على مسافة غير قليلة من السينما.. لن أذهب يعني لن أذهب !.. لن اوصلك يعني لن اوصلك !! صرخ ساتي بغضب..&&لم تجبه.. عثرتْ عل حقيبتها اليدوية.. علقتها على كتفها وتجاوزتني لتفتح الباب الذي اقف جنبه وخرجت دون ان تنظر لا صوبي ولا صوبه..&قبل أن استرد وعيي من ذهول الموقف بادرني ساتي راجيا:-الحق بهذه المجنونة.. إن لم تستطع اقناعها بالعودة، فارجوك يا أخي ان تذهب معها الى السينما.. ارجوك!لم اجب بل فتحت الباب من جديد وهبطت بالمصعد.. لم تكن بعيدة عني كثيرا وهي تتلفت يمينا ويسارا بحثا عن سيارة اجرة.&ما أن اقتربت حتى توقف سائق تاكسي لينزل راكبيه.. سارعت غالا اليه وانا اعدو خلفها.. حين فتحتْ الباب وصعدتْ سارعت لامسك مقبض الباب قبل اغلاقه واندسست الى جانبها.. طلبتْ من السائق ايصالها الى سينما الخرطوم الصيفي.&لم تفتح فمها بكلمة، ولا أنا، الى أن وصلنا الى السينما وسط المدينة..&.. توجهتُ الى شباك التذاكر.. لم يبق على بدء العرض الليلي الاخير إلا دقائق.. كانت الساعة قد جاوزت العاشرة.&حين دخلتْ وانا بصحبتها، وساحة السينما المنارة جيدا مكتضة بالحضور، توجه العديد منهم بابصارهم صوب هذا الثناءي الغريب (الناشز)..&.. غريبٌ، ليست له ملامح ولون السوداني، بصحبة زوجة الساتي الذي يعرفه العديد منهم.&.. اختارت مقعدا في الامام.. حين كنت امشي معها الممر الطويل بين صفوف المقاعد لسعتني سهام ابصار الكثيرين، او هذا ما خيل الي.&حين اطفئت الانوار ليبدء العرض تنفست الصعداء.. لم افهم اي شيئ من الفلم بل لم أعرف حتى اسمه.. كنت لا ازال اتخيل أن البعض لا يزال يحملق صوبنا في الظلمة.. إلا انني كنت منشغلا بكيفية الخروج من ساحة السينما وسط الحشد الخارج كتفا لكتف حتى الباب.. كيف ساتصرف، هل احاول التحدث معها، وهم يلتفون حولنا خارجين ببطء، وكأن الامر عادي تماما.. هل اتخلف عنها قليلا وادعها تسير على مبعدة خطوتين مني واضيع في الزحمة.. هل اسبقها أنا لابحث عن سيارة اجرة تقف أمام السينما وانسل هاربا من الابصار الى المقعد الخلفي منتظرا التحاقها بي..&
مر اسبوع آخر من العذاب والضياع في هذا التيه..&.. كان الوقت ليلا حين دعاني الساتي للخروج معهما الى نادي الموظفين.. اعتذرت متعللا بصداع شديد ألم بي.&قررت أن آوي مبكرا الى سريري.&.. وانا اخلع بنطالي سقط مفتاح الشقة على الكنبة، او هذا ماتصورته.. اعياني البحث عنه بين زوايا مقاعد الكنبة الجلدية.. مددت يدي في العمق تحتها.. لم يكن علي إلا ان اقلبها كمحاولة اخيرة للبحث تحتها او في قاعدتها..&.. سقطت من بين احزمة قاعدة الكنبة الجلدية السفلية بضعة اوراق مكتوبة زرقاء.. يبدو انها رسائل في حين علق بعضها الآخر بين الاحزمة.&.. وانا اُلملم الواحدة تلو الاخرى استرعى انتباهي انها قد كتبت باللغة الانكليزية يتصدرها اسم غالا..&
"حبيبة عمري.. يا لذتي وعذابي غالا..&آه لو تعرفين عذاب ليلي المسهد، وانا اتقلب في الفراش العريض منتظرا اندساسك فيه الى جانبي.. ذلك الفراش الذي تحبيه وتعرفي كل بقعة فيه، والذي لا يزال يحمل عطرك ولطخات رحيق جنتك الصغيرة المنساب بين فخذيك.. لطخة تتفرد بك وأخرى تختلط بكل ما اودعته عصارة حبي وروحي ولذتي التي ادلقها في قارورة عسلك ونحن في النشوة الكبرى التي تهزنا سوية، في خفقات واختلاجات جنة الازل الخالدة تلك.. مرات ومرات نهتز ونختض وكأن الكون المترامي ينفتح ويتسع الى اللانهائي الساحر الغامض، ويتقلص ليعود الى بذرة الخلق الاولى.&وتستمر الرسائل لتصف بعدها أجزاء ظاهرة وخفية من جسدها والتي يغمرها كاتب الرسائل بالتلمس وبالقبل والارتشاف باسلوب مفصل داعر.. ولكنه والحق يقال جميل ايضا.. شعرت بانتعاض عضوي، وانا اقرأها الواحدة تلوالاخرى..&.. تنتهي الرسائل دائما بانه ينتظر اللحظة التي سيلقاها فيها في مطار برلين، مكان انتقالها الى الطائرة الاخرى التي تقلها الى موسكو بعد حين.. ويستحلفها باسم الحب الذي جمعهما منذ عامين أن تطيل أمد (الترانزيت) لاسبوعين او اكثر.. او للبقاء مدة سفرتها كلها، شهرا اوشهرين بحجة انها مرضت وهي في برلين ولم تستطع مواصلة الرحلة..&تنتهي الرسائل بتوقيع (المحب الذي اضناه الانتظار وولفانغ).&".. ما الذي سيحصل لو وقعت تلك الرسائل في يد الزوج المسكين، هذا الانسان الوديع الطيب.. لعله سينتحر.. او قد يقوم بخنقها وينتحر.. ربما يعيدها الى قريتها في اوكرانيا ويعود ليندم بعدها حين يفتقد وجودها فيعود للبحث عنها متوسلا اليها طالبا عودتها.. "&خطرت ببالي اعداد اخرى من السيناريوهات، كلها كانت قاتمة ومحزنة..&" قد اكون مخطئا في كل ذلك.. لعله يعرف بموقع الرسائل الخفي، بل ويعرف العلاقة كلها وهو صامت خوفا من فقدانها.. كم من اقاصيص تشبه (مانون ليسكو) مرت علي عند اناس اعرفهم، بل أن بعضهم من ذوي قرباي.. وما الضير في واحد جديد آخر ينسج في حبه المتفاني المتذلل قصة مثيلة اخرى ".. قلّـبت كل الاحتمالات ووجدت اخيرا أن من الاسلم، وخوفا على الرجل من الهزة التي قد تكون قاتلة، توجهت الى الحمام بعد ان جمعت كل الرسائل، وبعد ان بحثت بدقة بين احزمة قاعدة الكنبة وتأكدت من عدم وجود رسالة منسية هناك.. مزقتها كلها الى قطع صغيرة والقيت بها في المرحاض وسحبت عليها الماء الدافق.&
لم يطل الامر فبعد يومين فقط انقلب البيت الى جحيم مستعر.&.. اللبوة الهائجة تنشب مخالبها كل ليلة واحيانا كل صباح بالساتي شتما واهانة وتهديدا.. الزوج صامت في اغلب الاحيان.. ايقنتُ انها تجزم ان زوجها هو من اضاع عليها عالمها السحري الذي تعود اليه في مستوحش الخرطوم بين الحين والآخر لتقرأه..&" من غير هذا المتوحش الاسود اللعين ينبش بمخالبه مخبأ رسائلي.. "&.. تدخل الى المطبخ فتهشم الصحون والدوارق على الارض.. تخرج محمرة العينين الى الصالة تبحث عن فريسة.. كان ساتي في غرفة النوم، وكنت احملق في منظرها الهائج هذا.. استدارت صوبي فجأة لتجدني اتابعها ببصري..&-إيدي كجورت فون (اذهب الى الشيطان هناك!).. لم أجب، لكنها كانت اللحظة الحاسمة التي هدتني الى قراري.&" العودة !!.. لم هذا الضياع الذي لا ارى نهاية له؟!.. لم اضع نفسي في هذا الظرف المهين.. لم علي ان اهيم في الشوارع ساعات طويلة والكآبة تلتف بضبابها الكثيف وتخنقني فلا اعرف إن كنت اسير يمينا أم شمالا.. "" العودة؟!.. العودة، ولكن الى اين والوطن قد اغلق ابوابه والنقود القليلة المتبقية لا تكفي لمغامرة فاشلة اخرى في بلد عربي آخر؟؟ "" انت احمق مرة اخرى.. اليس لديك الوطن الذي التففت به منذ أن فتحت عينيك على الدنيا.. وطن عشته، عرفته وعشقته وأمنت اليه.. الوطن ليس ترابا تطأه.. الجواهري وطنك الكبير الدائم، تعود اليه ايها التائه الغافل كلما ضامك الدهر.. "ما أن برقت هذه اللمحة النيرة في مخيلتي، حتى ابتسمت.. بسمت شفتاي وعيناي وروحي..&.. توجهت الى غرفتي واستلقيت فوق سريري واخذتني هزة ضحك جذلى.. تتوقف لتعود بعد قليل بجذل اكبر.. جذل اعظم.&قبل أن أغفو، اتابع السقف كعادتي قبل النوم.. انزاح السقف وغمرت السماء بزرقتها ومليارات نجومها ولجين قمرها، غمرت فراشي والارض والجدران وتغللت بين حناياي.&عند الفجر كنت قد حزمت حقيبتي وحملتها بيدي.. طرقت باب غرفة الساتي وغالا وناديته بصوت خافت.. حين فتح الباب وعيناه لا زالتا مضببتان بالنعاس.. سحبته اليّ.. احتضنته وقبلته دون كلمة.. توجهت وفتحت الباب قبل ان يفلح في اللحاق بي.. انتظرت المصعد وهبطت.. قرب بوابة العمارة سمعت صوت اقدام تتسارع نزولا.. لحق بي الساتي وحين اعياه اصراري، توجه وقاد سيارته لآخذ مكاني فيها.&.. قبل توجهنا الى المحطة طرقت باب بيت تاج..&.. خرج اسماعيل تلعثمت وتكسرت الكلمات وانا اكاد اختنق بدموعي.. خرجتْ من فمي تمتمة لم افهمها وأنا أطيل احتضانه، ولكني كنت على يقين انه فهمها اكثر مني&
.. وادي حلفا والناقلة النهرية (الدوبة)، اسوان فالقاهرة..&لم يدم بقاءي في شقة محمد هناك اكثر من يومين، استطعت خلالها من ابدال جزء التذكرة المفتوحة التي زودتني بها الكلية في موسكو للعودة الى الوطن (القاهرة- بغداد)، وتحويلها الى (القاهرة - اثينا).. منحتني شركة الطيران بضعة دولارات كفارق سعر الرحلتين..&.. أثينا وعربة الدرجة الثانية في القطار (البطيء لا السريع).. يومين وثلاث ليال وشبه صيام خلالها.&كان الوقت ضحى عندما فتح الجواهري الباب..&.. وقف قرب عتبته وعلى وجهه تلك الابتسامة المرحبة الساخرة التي خبرتها مرارا.. تظهر معالمها أكثر في تلامع عينيه مما هي فوق شفتيه..&.. رميت حقيبتي جانبا.. احتضنته، قبلت وجنته وشممتها وصحت جذلا (اُ فّـيشْ!).. زادت السخرية المرحة في نظراته.. لايزال صامتا..&.. تململ قليلا عن موقعه وافسح لي مجالا، فسبقته الى الصالة لاجد الصينية الصغيرة العتيدة ودلة قهوته والفنجان وقدح الماء.. معالم بدء طقوسه كل صباح.&.. حين تبعني الى الصالة بادرته مبتسما:-هل سأكون عذولا هذا الصباح؟.. ادرت وجهي صوب غرفة نومه..&-ياريت !.. لم يطرق الباب غيرك منذ زمن.&عدّل من طاقيته ودخل الغرفة ليعود ويسلمني مظروفاً كبيرا..&-هذه رسالة من شخص اسمه تاج الدين في السودان يخبرك فيها بصدور أمر تعيينك طبيباً دوريا في مستشفى الخرطوم التعليمي ويرفق مع الرسالة صورة من قرار التعيين.&&
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
الإبداع
زينة -الإبداع هو الإبداع في اي مكان ، في الوطن او في الغربة ...انت مبدع في كتاباتك و وصفك للأحداث و ريشتك . استمر في إبداعاتك ولا تدع الحاسدين يؤثرون عليك وعلى أدبك و فنك استاذنا العزيز و دمت لنا ...
ذكرى جميلة
F.m -مع فنجان القهوة الصباحي انتظر ذكرياتك الجميلة والتي ترجعني الى عالمنا الجميل في سنوات عز بلداننا ..يا ليتها تعود و نعيشها من جديد ، دام قلمك يا استاذي و دمت لنا
صحيح الي خلف ما ماتشي
ح م -صحيح هذا الابن من ذاك الأب ،،،انت الطبيب و انت الكاتب و انت الرسام و انت الشاعر و انت ابن الجواهري الأكبر ،،،،،،دمت لنا يا أستاذ .