الافلاج العمانية في التراث العالمي لليونسكو
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
حيدر عبدالرضا من مسقط: تتنوع مصادر المياه في عمان، إلا أن الكثير من المواطنيين مازالوا يعتمدون على مياه الأفلاج في ري المزروعات وفي استخدامات أخرى. والأفلاج في عمان إرث خالد، وأن بعض تلك الأفلاج تم إنشاؤها قبل الإسلام، وأن أكثر من 61% من الأراضي الزراعية تعتمد على الأفلاج كمورد مائي، كما تعتبر الافلاج من الشواهد العريقة وإرثا عمانيا ضاربا بجذوره في أعماق التاريخ الحافل بالأمجاد التي سطرها العمانيين عبر حقب من السنين. وتأتي أهمية الافلاج باعتبارها وسيلة رئيسية للحصول على مياه الري، كما أنها لعبت أدوارا تاريخية في قيام الحضارات الاجتماعية في عمان.
وقد زارت عمان مؤخرا الدكتورة سوزان دينير خبيرة دولية من منظمة اليونسكو التابع للأمم المتحدة والتي تهتم
وقد تضمنت زيارة الخبيرة الدولية لعدد من الأفلاج في مختلف أنحاء عمان. وتأتي الاستجابة من المنظمة الدولية تجاه الأفلاج في عمان نتيجة للدعوة التي وجهها السلطان قابوس بن سعيد سلطان عمان مؤخرا إلى المؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) الذي عقد في باريس في شهر أكتوبر الماضي بمناسبة مرور ستين عاما على إنشاء المنظمة لأهمية إدراج الأفلاج العمانية ضمن التراث العالمي حيث قال السلطان: " ونحن في سلطنة عمان نتطلع إلى إضافة نظام الأفلاج كمعلم تراثي جديد على لائحة التراث العالمي في اجتماع لجنة التراث عام 2006 باعتباره جزءا أصيلا من نسيج حياة المجتمع العماني، حيث تعد الأفلاج من المصادر المهمة للمياه التي تقوم عليها الحياة في مختلف الحضارات، وتعتبر من أهم الموروثات الحضارية العمانية التي تعبر عن قدرة الإنسان العماني على مواجهة التحديات سعيا لبناء الحضارة وإثراء التراث الإنساني العالمي فكرا وعملا وابداعا".
الأفلاج نظام إداري للري
وتشير الأدبيات العمانية أنه إذا كانت عمان ككل قبل اختراع وسائل المواصلات، والاتصالات الحديثة جزيرة وسط بحرين من المياه المالحة والرمال، فأنها كانت أيضا بدورها مجموعة من مئات الجزر تفصلها عن بعضها البعض سدود جبلية وبحار رملية. وقد كان الفضل لنظام الافلاج في معظم أنحاء عمان في إيجاد نظام إداري يعمل على تماسك قاطني هذه الجزر السكانية، ذلك أن عمان لا تتمتع بنهر يربط بين أجزائها مثل انهار دجلة والفرات والنيل التي قامت على ضفافها حضارات كبرى، لكن الطبيعة لم تبخل عليها بمياه جوفية تجود بها الآبار حينا والافلاج حينا آخر.
وكلمة الفلج جاءت من الفعل فلجَ بمعنى فلقَ أوشقَ، وهو باختصار قناة مائية لها مصدر من فجوة في مكان مرتفع في طبقة صخرية، ومنها تمتد قناة مسافة أميال عديدة حتى تصل إلى أرض قابلة للزراعة، فإذا كانت في مستوى سطح الأرض تقام قناة سطحية وإذا صادفت أرضا مرتفعة تم مدها عن طريق حفرها بأسلوب يدل على مهارة معمارية متقدمة، أما إذا تطلب مدها بالمرور بأرض منخفضة عن مستواها أقيم لها جسر.
وتشير بعض المصادر أن عدد الأفلاج في عمان يربو على 4112 فلجا. وينقسم نظام الفلج في معظم المناطق والولايات العمانية إلى حسابات تتمثل على أساس الوقت حيث يقوم على وحدات زمنية وتنحصر بين الأثر وهو ما يعادل نصف ساعة، و(الربع) أو (الربيع) وهو ما يعادل ثلاث ساعات، و(البادة) وتساوي 12 ساعة أو 24 أثرا، و(القامة) ومدتها سبع دقائق ونصف. وقد كان في السابق يحتسب الزمن والتقسيمات بنظام (المزولة) والتي تعتمد على الظل بوجود حجارة كبيرة مثبتة وعمود حديد ويقسم على حسب دوران الشمس اما بالنسبة لليل فكان التوزيع يتم عن طريق النجوم، وفي الوقت الحالي يتم عن طريق الساعة، ويتم الاحتساب عن طريق وكيل الفلج أو احد الماهرين في حسابات الفلج.
وهناك مجموعة من العوامل الجغرافية التي دونها العمانيين لإنجاح عمليات اختيار الأماكن الملائمة لحفر الأفلاج وفي مقدمتها وجود مرتفعات جبلية واسعة تتخلل تضاريسها أودية تستقطب مياه الامطار بمعدلات مناسبة، وضرورة وجود مناطق صالحة للزراعة وقابلة لإنشاء حقول تروى بمياه الأفلاج. كما أن أهمية وجود انحدارات طبيعية مناسبة من مصدر المياه باتجاه الأراضي الزراعية يساعد على جلب المياه بالجاذبية الارضية، مع التركيز على توافر المعلومات الكافية عن تواجد مخزون من المياه التي تخلفها الأمطار سنويا سواء الموسمية منها أو غير الموسمية. ومما يساعد على اكتشاف الفلج والاستدلال بوجود المياه هو تواجد اشجار الغاف الكبيرة والتي يستدل بها عن وجود مخزون مائي في جوف الارض.
وتعتبر مرحلة تنفيذ وشق الفلج بالغة الصعوبة من حيث التأكد من صلاحية المنطقة، ومدى توافر العوامل المطلوبة فيها. وبعدد توافر تلك العوامل تبدأ المرحلة الأولى بإنشاء أم الفلج كبداية للعملية الاختبارية لتحديد منسوب المياه جوفيا، وعندما يتأكد القائمون على هذا العمل من وجود تلك المياه بكميات كافية يتم تحديد انحدار قناة الفلج وذلك عن طريق حفر بئر أخرى عند المنطقة الزراعية التي من خلالها يتم التعرف على مناسيب المياه في أم الفلج والأرض الزراعية والفرق بين منسوبيهما، عنئذ يتم شق الفلج من الشريعة وفي اتجاه الأم عن طريق الانفاق مع مراعاة الميل المناسب لساقية الفلج بحيث يكون ما أمكن ذراعا رأسيا لكل اربعين ذراعا أفقيا أو ما يعادله.
وتعتبر عملية إنشاء الفلج عملية معقدة جدا حيث أنها تحتاج إلى خبرة كافية في تحديد المناسيب وقدرة بدنية عالية ومهارة فنية لتكسير الصخور وغيرها من المجالات العملية الشاقة في شق وانشاء وتنفيذ الافلاج. وبعد نجاح هذه المراحل يتم انشاء شبكات توزيع المياه إلى الأراضي الزراعية بكل براعة واتقان ومن دون أي صعوبات يمكن أن تواجهها المياه وهي في طريقها إلى تلك الأراضي المراد سقيها شبكات توزيع المياه. وبعد أن تبدأ مياه الفلج في الجريان يتم تقسيم هذه المياه بين الذين شاركوا في عملية الحفر كما تم ذكرها مسبقا من خلال عمليتي البادة أو الأثر. وكانت مدة (الأثر) تحدد في النهار بواسطة الظل وبالليل بواسطة حركة النجوم في الفضاء وذلك لعدم وجود ساعة تحديد الوقت آنذاك. والعمانيون برعوا بعلم الفلج حيث استطاعوا بذلك التعرف على تسميات النجوم وتعديل معدل حركتها وأوقات ظهورها وغيابها معرفة النجوم الظاهرة في أول الليل والنجوم الظاهرة في أواخره ومعرفة حركة كل منهما. كما أن العمانيين الأوائل عرفوا حركة الشمس في الفصول المختلفة على مدار السنة. ويستنتج من ذلك أن الفلج جعل من العماني عالما في الفلك والاقتصاد والاجتماع.
أنواع الأفلاج في عمان
وتشير المصادر العمانية أن هناك أنواع مختلفة من الأفلاج هي:
أفلاج عينية : وهي عيون تنبع من سفوح وقمم الجبال وتنساب منها المياه في قنوات مكشوفة يتراوح عرضها ما بين 5 10 سنتيمترات وارتفاعها ما بين 5 15 سنتيمترا. وتمثل هذه الافلاج ما نسبته 26% من الأفلاج في عمان.
أفلاج داوودية: وتتميز هذه الافلاج بطولها والذي يصل إلى 12 كيلومترا وهذا النوع من الافلاج عبارة عن أنفاق تحت الأرض يتواجد معظمها في أعلى السهول بمناطق الباطنة والظاهرة والداخلية والشرقية، وتمثل هذه الأفلاج ما نسبته 26% من إجمالي عدد الأفلاج في عمان.
أفلاج غيلية: ويتواجد هذا النوع من الأفلاج بشمال عمان وتمثل ما نسبته 48% من الأفلاج العمانية وهي عبارة عن قنوات مكشوفة في معظم طولها ومغطاة في جزء قليل منها وتتواجد في مجاري الاودية. واللافت للنظر أن معظم هذه الأفلاج تجف في السنوات الشحيحة للأمطار وذلك بسبب اعتمادها على المياه المتجمعة في البرك الموجودة في المناطق المنخفضة من الأودية.
مصادر المياه الجوفية في عمان
وكما هو معروف فان عمان تعتمد على المياه الجوفية اعتمادا كليا والتي يتم استغلالها عن طريق الأفلاج والآبار، حيث تشكل الأمطار المصدر الرئيسي لتغذية هذه الموارد المائية، ونتيجة للزيادة المطردة في عدد السكان ودخول التكنولوجيا الحديثة في حفر الآبار اختل التوازن المائي، وظهرت فجوة كبيرة بين حجم العرض والطلب على الموارد المائية، مما أدى إلى ظهور مشاكل مائية كبيرة أبرزها تداخل مياه البحر في بعض المناطق الساحلية، ومشاكل الجفاف ونقص بالموارد المائية في كثير من المناطق الداخلية بالسلطنة حيث تعتبر المياه من أهم المصادر البيئية على اعتبار انها عنصر حيوي لاغنى لجميع الكائنات الحية عنها.
فعمان تقع ضمن حزام المناطق الجافة والتي تتميز بحرارة عالية في فصل الصيف يصاحبها ارتفاع كبير في معدل التبخر وانخفاض في معدل هطول الأمطار حيث يبلغ المتوسط السنوي لهطول الأمطار في السلطنة حوالي 100 ملم. ومن هذا المنطلق تهتم الجهات المعنية بإدارة وتنمية الموارد المائية وتنفيذ المشاريع، وتتبع الاجراءات المناسبة لتنظيم استغلالها، وضمن أهم الاجراءات التي تم تنفيذها في هذا الاطار صيانة الأفلاج وذلك نظرا لقدم مجاري الافلاج المحفورة تحت الأرض والتي تعود لمئات بل آلاف السنين، حيث أن بعضها تتعرض للإنهيار، وتساهم العوامل الطبيعية المختلفة كالامطار والرياح في حدوث تلك الانهيارات. وقد اهتمت هذه الجهات بصيانة الأفلاج وحفر الآبار المساعدة لها وذلك لمساعدة الاهالي في صيانة الأفلاج وفقا لاولويات ومعايير وضعت ليراعى فيها أهمية الأفلاج ومدى تضررها وحسب الامكانيات المادية والفنية المتوفرة.
وقد شهدت الخطط الخمسية الماضية صيانة عدد من الأفلاج القائمة وحفر الآبار المساعدة لها، كما تستقبل الجهة التي تشرف على المياه الطلبات المتعلقة بصيانة الأفلاج وحفر الآبار المساعدة لها وتقييم الاضرار وتطبيق المعايير التي تم وضعها لتحديد أولويات الصيانة. وتأتي هذه الجهود بهدف رفع كفاءة نظام الأفلاج كأحد أنظمة الري الرئيسية المستخدمة في السلطنة بجانب إنشاء السدود التي تعد هي الأخرى أحد انماط المشروعات المائية التي تساهم في تنمية موارد المياه والاستفادة منها في تأمين الاستخدامات المختلفة الأهلية الزراعية والصناعية في اي مجتمع.
وقد أولت الحكومة العمانية في جانب الاصلاح وصيانة الأفلاج اهتماما من خلال وضع الضوابط والأنظمة والقوانين وتطوير طرق صيانتها وأدخلت الوسائل المتطورة في عمليات الصيانة وأصبحت الوسائل الميكانيكية العملاقة تستخدم كأداة متطورة في شق مجرى الفلج تمهيدا لصيانته بدلا من الوسائل اليدوية، كما استخدم الحفار الميكانيكي لتكسير الطبقات الصخرية والتي تؤدي دائما الى اعتراض مجرى الفلج، حيث اعتاد العمانيون الأوائل قديما على إزالة تلك العوائق الصخرية بعمليات الحفر اليدوي. كما استحدثت الخرسانات العادية والمسلحة في انجاح عمليات البناء، وفي بعض المناطق تمت تغطية قنوات المياه حماية لها من الأتربة أو من أي عوائق تعترض سير المياه في تلك القنوات.
وعموما فان الأفلاج تمثل نعمة عظيمة أنعمها الله عز وجل على البشرية والقاطنيين في عمان، وهي زاخرة بالمياه، وهي نعمة وفضل للكائنات الحية جميعا سواء للإنسان أو الحيوان أوالنبات، حيث أن الحياة في عدة أنحاء عمان مازالت متوقفة على المياه الجارية من هذه الأفلاج، بينما نجحت الحكومة في تشغيل الكثير من المشاريع المائية الحديثة وإستغلال احواض المياة التي تم اكتشافها خلال السنوات الماضية، بحيث أصبحت هذه المياة تمتد عبر القنوات المائية الحديثة لتصل من ولاية إلى أخرى، إلا أن معظم تلك المياة تستغل في الاحتياجات اليومية للمواطنيين سواء للشرب أو الاغتسال اليومي أوغيرها من الأمور الأخرى. ومع وجود المشاريع التنموية الكبيرة التي تنفذ في المجالات الزراعية والصناعية والسياحية، فان حاجة المجتمع العماني تزداد يوميا للمياه أسوة بالمجتمعات الحديثة الأخرى، الأمر الذي أدى إلى تسهيل أمور تحصيل المياه، وبدأت بعض الشركات العمانية بتأسيس مشاريع مائية للقيام بتزويد الأفراد والمنازل بالمياه الصالحة للشرب والإستعمالات الأخرى.