إيلاف+

حوض آرغين الموريتاني

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

حوض "آرغين" الموريتاني: جَمالٌ يتدفق كشلالٍ آسرٍ من الزهور!

حسن ولد المختار: السيارة المتجهة شمالاً من انواكشوط (عاصمة موريتانيا) إلى انواذيبو (عاصمتها الاقتصادية القريبة من الحدود المغربية)، تنهبُ بهمَّة الأرض وتطوي المسافات المترامية في رحلة شاقة حقاً وموعودة بعرَقٍ غزير وعطش كثير وقَرْص لفحات غبراء صفراء كدِرة على اليمين قادمة من أعماق الصحراء الموريتانية الكبرى. وبين حين وآخر يسري في الجسم خَدَرٌ تبعثه هَدْهَدَة نسمات ندية باردة على اليسار يخيَّل اليك أنها صادرة عن تنهُّدات حرىَّ قرَّر المحيط الأطلسي، بعد تفكير عميق في المستقبل، أن يطلقها الآن فجأة، هنا ودون سابق إنذار. والسيارة - على كل حال - في انسيابها مسرعة على حدود حوافِّ الماء تكاد تلامس بدواليبها الخشنة أمواج المحيط العاتية، التي تبدو وكأنها تولد هناك – كالإشاعة- في نهاية الأفق المتماوج، ولكنها - مثلها تماماً - تتعاظم كلما اقتربت، وتنتقل من لسان عطِنٍ إلى لسان، حتى تضرب بإصرار عجيب وبمَجْمع قبضتها العاتية - غير واضحة الملامح ولا نهايات رؤوس الأصابع - الهلال - غير الخصيب- الواهن من الرمال الصفراء المتكوِّم على نفسه في توجس من ينتظر صفعة على وجهه من كفٍّ مخضبةٍ لحبيب كالح صدود متغنج. صحيح أن صفعة قوية من كف الحبيب حلوة - عند عربنا هنا- تماماً كأكل الزبيب، ولكن صفعة موجتنا نحن اليوم يكون لها في كل مرة ما يشبه هول الصاعقة في ليل خريفي ضرير وممطر، إذ سرعان ما تفرِّق بزمجرتها الهوجاء شمل أسراب "الدبيَّات" وسرطانات البحر وكائنات بحرية أخرى كثيرة تعيث في هذه الأنحاء البكر توالداً وتجوالاً، دون حسيب ودون رقيب من الحكومة طبعاً، ومن سجل النفوس أيضاً. لحسن الحظ، السيارة في رحلتها اليوم تسير دائماً ولكنها لا تصل أبداً، والطريق أمامنا وقد أفسد جماله الإسفلت حديثاً ينداح مشوهاً عذرية الدرب الذي نقفو أثره المتموِّج كآثار أفعوان صحراوي هائل، ونحن في تغريبتنا – غير الهلالية- نقطِّعُ مكرَهين ذيول هذا الثعبان الأسود الشاحب، نصعد معه ونهبط، ونستريح أحياناً، جامعين بقايا الحطب والفحم المتناثر كالوشم المتخثر قارئين أسفاراً من سيرة قوافل الملح التي طالما جلَّلَت بمياسمها المتعرِّقعة، وحداء رعاة إبلها هذا الطريق الموحش العامر بالمخاطر والمكتنز الذاكرة أيضاً بالحكايا وذكريات المواسم البعيدة.

أنهت أمواج المحيط الأطلسي رحلتها الشاقة واستقرت أخيراً على صدر الحبيب، ولكن رحلتنا نحن لم تنتهِ بعد، فمئات الكيلومترات لها هي أيضاً ضروراتها وتضحياتها وثمنها، ومهرها الذي لابد أن يُغليه من أراد أن تميط له النقاب عن جمالها الآسر، في "ليلة دخلتها الأسطورية" الدائمة. والجائزة التي كانت تنتظرنا وجدناها، كما هو موصوف، حافلة حقاً وتستحق كل هذا العناء. لحظة الوصول عندما استقرت دواليب السيارة، وجدنا أنفسنا وجهاً لوجه مع كل هذا الجمال الخلاب والمناظر الطبيعية الآسرة التي يخيَّل إليك من فرط بكارتها وسذاجتها وعذريتها الأخاذة أن عيناً آدمية لم تقع عليها قبلك أبداً. إنها منطقة حوض "آرغين". منطقة ما فتح عليها ناظرٌ عينيه إلا رمته بجمالها وانسلَّت. كانت المنطقة لحظة وصولنا على قدر من البراءة والسذاجة جعلها تكشف لنا عن مفاتنها دفعة واحدة، دون مساومة، ودون مُماكسة، ودون "قبض المكتوب" أيضاً. ووجه سذاجة هذه البقعة الفاتنة البريئة هو أننا لم نأتِ إليها، للأسف، فقط بحثاً عن الجمال، أو لنشمَّ رائحة الأرض، ونسغها، وإنما جئنا أيضاً لكي نسجل بعض وقائع ويوميات مآسي قلعة "آرغين" التاريخية التي "شمخت" هنا ذات يوم، عندما كان البحر يلقي بجفائه علينا بغتة، ويأخذ جفاءه عنا – مشكوراً- بغتة أيضاً. يومها كانت مفاتيح المدن تُأخذ بالجزية، و"تُباع" بالجزية كذلك. وكنا نحن أيضاً –للأمانة- سذج كجمال حوض أرغين، حين أتينا مهجوسين، أكثر من اللازم، بكوابيس الدخول في حصة من حصص "التاريخ"، وبقينا نشازاً وسط هذا الدرس من "الجغرافيا" الاستثنائية وظللنا هكذا نرفل في ثياب الحِداد أمام الطبول حين حرمنا أنفسنا بعض الوقت من فرح غامر تهيأ لنا فجأة، في مناظر تنثال في تماوجها كشلال أسطوري متدفق من الزهور.

لحظة اللقاء الصعبة

ترتبط قلعة "آرغين" هذه على الساحل الأطلسي الموريتاني بمأساتين تاريخيتين ظلت تتدثر بذكرياتهما طيلة تاريخها الطويل، إلى أن طواها النسيان واندثرت نهائيا، والآن تحولت الجزيرة التي كانت القلعة الخشنة تجثم على صدرها بقوة إلى منطقة طبيعية خلابة تعتبر محمية من طرف الحكومة الموريتانية والأمم المتحدة وذلك ما تزخر به منطقة حوض "آرغين" بصفة عامة، من تنوع شديد، لكل أنواع الحياة كالطيور والكائنات البحرية المهددة بالانقراض مثل عجول البحر الرهبان والدلافين الحائشة والشفنين والمرجان الرمادي والسمك الشاخر والقاروس المُبَقّع والقرش المطرقة وثعلب البحر، وملايين الطيور المستوطنة، والمهاجرة، والموسمية. وينتظر من يلتفت على مد البصر في الطرف المقابل للجزيرة منظر زوارق الصيادين العرب التقليديين المعروفين باسم "إيمراجن" الذين تداعب زوارقهم الصغيرة حوافَّ الماء وهي تسير في سكينة حيناً ويقذف بها الموج غاضباً أحياناً أخرى كذلك.

ومنذ القدم أحاطت بـ"إيمراجن" أبناء البحر الغامضين هؤلاء هالات من القداسة والأساطير، والأساطير المضادة أيضاً، إذ قيل إن المحيط قدَّهم من زبَدِه المتخثر وأودعهم جلَدَه وشموس طباعه وجفوته وتركهم هنا خفراء دهريين على لُقَاه وأسحاره وقماقم أسراره. وقيل إن جماعاتهم المتعاقبة عقدت ذات يوم اتفاقاً ضمنياً للصيد منذ عشرات القرون مع الدلافين وسمك القرش ما زالت معظم بنوده غير واضحة تمام الوضوح حتى الآن لدى معظم الباحثين في علم الأحياء والأنثروبولوجيا أيضاً. وقيل... وقيل.

أما نحن حين أتينا إلى هنا فلم نجد من بقايا كل تلك الأساطير شيئاً سوى قرى صغيرة متناثرة تعيث فيها أعشاش الصفيح وأسمال الخيام والأعرشة المهترئة، التي تقطع نياط القلوب، وأطفالٍ صغارٍ ممزقي الأسمال، وصبايا صغيرات تنثال على مناكبهن غدران من الشعر الفاحم مضفورة بدقة وعناية شديدة تذكـِّر بتموُّجات خطوط الفِلاحة. ولسوء حظنا أيضاً صادفنا لحظة اللقاء الجميل "فوجاً سياحياً" أوروبياً مكوناً من سيارة "لاندروفر" ثنائية الأبواب، وخادمة زنجية عبلاء حسنة الصنع، وكهل أبيض متجهم بدين مندلق البطن حتى مسافة قريبة من ركبتيه اللتين يحزُّ فيهما سروال خشن قصير وتتدلى على طبل البطن كاميرا تصوير خالية من الرشاقة هي الأخرى، وطفلين أشقرين شقيين يتلاطمان بالأيدي، و... أمهما – وربما أمهم جميعاً- امرأة يخيل إليك من أول نظرة، لفرط رشاقتها وضناها أنها "تالفة"، تالفة لا محالة، كأنها خارجة للتو من إحدى مصحات الحَجْر الصحي على مرضى السل الرئوي. أما شفتاها الممطتان فحمراوان قانيتان كأنهما خرجتا للتو من بطن حيوان مغدور. وماذا تلبس؟! لا شيء، كانت كما خلقها الله تقريباً، رغم أن المشهد خلفها يتماوج جميعاً في ملابس السهرة.

حين استقر بنا المقام هجم علينا فجأة جيش من القصاصين والقصص والأساطير دفعة واحدة. قيل لنا إن هذه الجزيرة مسكونة/ مشؤومة، يركب رأسها الشيطان. وشيئاً فشيئاً وضعنا نحن أيدينا على القصة من بدايتها ورجعنا بحكاية عن كل ما عرفته قلعة "آرغين" المنسية هذه من أحداث جسام، في القرون الستة الماضية، وقررنا في لحظة من لحظات أنس "إيلاف" الحميمة أن نرويها لزوار الصحيفة - حسب الأصول- منطلقين من البداية، إلى النهاية.

"إيمراجن" والدلافين "الحائشة"

تقع جزيرة "آرغين" في الحوض الذي يحمل هذا الاسم جنوب منطقة الرأس الأبيض بأقصى شمال الساحل الأطلسي الموريتاني قرب الحدود مع الصحراء المغربية، وقد عاشت بهذه الجزيرة الصغيرة، وعشرات الجزر التي توشح هذا الجزء من المحيط الأطلسي بنمنمة رائعة، منذ عهود سحيقة، شعوب غامضة تركت وراءها أكواماً من الأصداف، والمشغولات الحجرية، أثبت التحليل الكربوني أنها تعود للعصر الحجري الجديد. ولا يعرف شيء عن هذه الشعوب، وإن كان بعض الباحثين يربطها بشعب "بافور" القديم الذي لا يستبعد أن يكون ذا صلة بسكان جزر الكناريا "الجزر الخالدات" (التي تبعد أكثر من مائتي كيلومتر في عمق المحيط الأطلسي، وتتبع الآن أسبانيا، أما سكانها الأصليون هؤلاء المشار إليهم أعلاه فلا يكاد يوجد لهم أثر الآن بعد عملية الإفناء و"الأسبنة" والإدماج القسري المعروفة تاريخياً عن الإسبان في مستعمراتهم).

وحين استضاءت المنطقة بنور الإسلام ووصل العرب إلى هذه الأصقاع النائية من جنوب المغرب الأقصى (حسب تسمية العصور العربية الأولى)، استوطنوا بدواً رحَّل قرب منطقة آرغين. ومع مرور الوقت استقر صيادون عرب في الجزيرة وعلى الشط المقابل لها. دفعتهم إلى ذلك غزارة الثروة السمكية في المنطقة، إلى حد يفوق كل وصف، فهي تعتبر أغنى مكان في العالم بالأسماك، وذلك لأنها نقطة التقاء تيارات الكناريا الباردة القادمة من الشمال، والتيارات الدافئة القادمة من خليج غينيا بأفريقيا الغربية، هذا إضافة إلى تيارات بحرية أخرى قادمة من جزيرة القديسة هيلينا بعرض المحيط الأطلسي. وبفعل التقاء هذه التيارات تصبح المياه دافئة وموطناً مفضلاً لملايين الأسماك التي تهاجر إليها من جميع أنحاء العالم، وتتخذها موطناً للتكاثر، كما تجتذب إليها ملايين الطيور التي تخف إلى ما يزخر به المكان من مواحل وأرصفة رملية وقعور وآبار فيضية صاعدة في المحيط ومعاشب مائية وغير ذلك مما يجعل منطقة الجزيرة جنة حقيقية لمختلف صنوف الحياة البحرية الإنسانية والحيوانية على حد سواء.

وقد ظل هؤلاء الصيادون العرب المعروفون محلياً باسم "إيمراجن" في حالة مصالحة تامة مع هذه البيئة الهادئة الغنية بالموارد، وقد لفتت عملية التعاون بينهم وبين الدلفين الحائش والقرش انتباه بعض الباحثين في علمي الأحياء والأنثروبولوجيا.

وقد وصف الباحث "جان كلود كلوتشوف" التعاون الفطري بين صيادي "إيمراجن" والدلافين بقوله: "يضرب الصيادون رؤوس الأمواج بقضبان خشبية أو بالأغصان، فيثيرون بذلك انتباه الدلافين السابحة في عرض البحر. وبعودتهم نحو الشاطئ، تخيف الدلافين أسماك البوري، فتلعب بذلك دور الدلافين الحائشة المطاردة تسهيلاً لعملية الصيد... وإذا بالشبكة الكبيرة المنصوبة في البحر عند الشاطئ، تنغلق على الأسماك التي تهتز وتقفز في كل الاتجاهات، ويكون قد تحقق صيد عجائبي".

وقد سميت هذه الدلافين حائشة تشبيهاً لها بالكلاب الحائشة (التي تستدرج الطرائد إلى الصياد). ومفهومٌ أن الدلافين تستفيد هي أيضاً بدورها من عملية التعاون هذه، حيث يوفر لها مصادر غذائية كثيرة، فالمنطقة إذن قائمة على سلسلة غذائية متكاملة تتدرج وفق تسلسل هرمي بيئي بالغ التعقيد والتكامل والحساسية أيضاً.

أوجاع الذاكرة

التاريخ كالمِلح قليل منه مُستحب وكثير منه يفسد الطعام. ولعل هذا ما عانت منه منطقة "آرغين" هذه، إذ أنها على رغم جمالها الآسر عُرفت تاريخياً في المخيال الثقافي الأوروبي، على الأقل، بأنها "جزيرة المآسي" والكوابيس الفظيعة. وقد وقعت أولى المأساتين اللتين اشتهرت بهما هذه الجزيرة عبر تاريخها المديد سنة 1443 حين رست عليها سفن القبطان البرتغالي المغامر "نينو تريستاو" فشيّد عليها قلعة عرفت في الخرائط البحرية باسم (كاستيلو دا آرغين) أي "قلعة آرغين" باللغة البرتغالية، واتخذها الأوروبيون منذ ذلك الوقت محطة مهمة لتجارة الرقيق الأسود القادم من غرب أفريقيا، خاصة أن الملك البرتغالي "هنريكيس" كان قد أطلق، في غمرة أمجاده البحرية، حملة استكشاف بحثاً عن طريق إلى الهند، وهي الحملة التي قادت سنة 1498 الملاح "فاسكو دي جاما" إلى الالتفاف حول رأس الرجاء الصالح بأقصى جنوب إفريقيا، محققاً لأول مرة دورة على القارة السمراء فتحت فيما بعد الطريق إلى الهند الحقيقية، وليس إلى "جزر الهند الغربية": التي هي أميركا، كما فعل كريستوفر كولمبس واهماً أنه وصل إلى الهند، سنة 1492 أي قبل ست سنوات من ذلك التاريخ.

منذ بناء "كاستيلو دا آرغين" البرتغالية سنة 1445 ظلت هذه القلعة على الدوام نذير شؤم للمنطقة ولساكنيها المتعاقبين. فرغم الأرباح التي جناها البرتغاليون من تجارة الرقيق الأسود والصمغ العربي وصيد الأسماك، فقد شن عليهم البروتستانت الفرنسيون القادمون من مدينة "لاروشيل" حرباً شرسة بلغت ذروتها سنة 1595 وانتهت بنهب القلعة، وتدمير التماثيل التي شيدها الغزاة البرتغاليون قبلهم. ومع ذلك استمر الحكم البرتغالي وإن تميز بالعربدة الفاحشة والفجور الشديد المسرف حيث وصلت شكاوى من الرهبان المقيمين بالقلعة إلى محاكم التفتيش في لشبونة 1568 وتكررت أيضاً بإلحاح سنة 1624. وأخيراً انتهى الوجود البرتغالي بالجزيرة حين احتلها البحارة الهولنديون 1663 واستمروا فيها حتى سنة 1678 وهي السنة نفسها التي دخلها فيها المغامر الفرنسي، جوَّاب الآفاق، القبطان –أو بكلمة أدق: القرصان -"دوكاس"، فهدم القلعة وطرد الهولنديين وجمع مائتين من الصيادين المحليين وباعهم لتجار الرقيق، لكنهم ماتوا جميعاً بعدما ثاروا على ظهر السفينة التي كانت تقلهم إلى منفى خبأه لهم حظهم العاثر في جزر الأنتيل الكاريبية في الطرف الآخر المقابل من المحيط الأطلسي قرب القارة الأميركية. غير أن الهولنديين أعادوا الكرَّة واحتلوا القلعة مرة أخرى سنة 1685 وعملوا هذه المرة لحساب حاكم "براندنبورج" وفيما بعد لحساب ملك بروسيا. ولأنهم مرتزقة متقلبون في ولاءاتهم فقد أهملهم الجميع فبقيت الجاليات الأوروبية هنا منذ مطلع القرن الثامن عشر، مجرد جموع ضائعة من المرتزقة وجوابي الآفاق المغامرين التائهين على وجوههم دون قصد أو هدف واضح. وقد أدى كل ذلك إلى صراعات داخلية فيما بينهم كان أبرزها التمرد سنة 1713 الذي قام به أجلاف القلعة من عامة المستوطنين الأوروبيين على حاكم الجزيرة "بوث"، (وكان بوث هذا شخصاً كريهاً يستبد بمأموريه ويخون أسياده مع الفرنسيين الذين قاموا في 1720 - 1721 بهجمات على آرغين أدت إلى مجازر شنيعة وقع ضحيتها عدد كبير من السكان المحليين).

ولم يستمتع الغزاة الفرنسيون بقلعة "آرغين" طويلا إذ عاود الهولنديون احتلالها مجدداً، واستمروا فيها حتى طردتهم حملتان فرنسيتان متتاليتان سنتي 1723 و1724 ولما لم يجنِ الفرنسيون من تجارة الصمغ مع العرب فوائد تجارية كبيرة أقدموا على إحراق القلعة بالمرة، وتهديم حصنها نهائياً سنة 1728 وحملوا عصيهم ورحلوا نهائياً غير مأسوف عليهم فجأة في عرض البحر، كما ظهروا منه فجأة أيضاً في يوم أغبر كالح. وبعدها دخلت "قلعة أرغين" في سراديب النسيان بعد أن ألهمت طويلاً خيالات وأطماع البحارة الغربيين والقراصنة والمرتزقة وجوابي الآفاق، وعابري السبيل في عرض البحر، من كل صنف ولون.

طوف الميدوز

وفي سنة 1816 استعاد المخيال الثقافي الغربي جميع ذكرياته عن مآسي قلعة "آرغين" حين وقعت ثاني أكبر مأساة اشتهرت بها وهي غرق سفينة "الميدوز" الشهيرة قربها. ليلتها تهاوت سواري تلك السفينة المشؤومة على حين غرة، وغاصت أحلام ثراء ركابها، وضاعت كنوزهم، وفتح المحيط الأطلسي فمه المسنـَّن، والتقم الجميع إلى غير رجعة. وحين تجمَّع على أحد قوارب الإنقاذ عدد كبير من الناجين قارب الـ 146 شخصاً، بدأت مأساة أخرى لا تقل هولاً ولا فظاعة كوابيس. وامتدت محنة الناجين 12 يوماً، ولم يبق منهم على قيد الحياة سوى 15 فرداً. أما البقية فقد أكل بعضهم بعضاً في لحظة نادرة من لحظات انكشاف حقيقة هذا "الذئب" المدعو إنساناً حين يتعلق الأمر بوجوده. ومن أجل البقاء رمى بعض "الناجين" بعضاً آخر في عرض البحر، في حالة أثارت هواجس وأصداء كبيرة في عموم القارة الأوروبية. كما أثارت مأساة قارب "الميدوز" هذه خيالات الفنانين فاتخذها الفنان الشهير تيودور جيريكو (1791 - 1824) رمزاً للوجود الإنساني عامة في هذا الكون، وما يكتنفه من قسوة وفظاعات ومضايقات "آخرين هم الجحيم". لقد قدمت هذه المأساة للفنان مرهف الحس، فكرة عميقة عن معنى الوجود الإنساني وما ينتابه من هواجس الدمار واللاعقل. وقد خلَّد "جيريكو" كل ذلك في أشهر لوحاته التي تحمل اسم "طوف الميدوز" والتي تروي ما لم يُرْوَ من فاجعة تلك المأساة الإنسانية، طبعاً مع مسحة رومانسية جامحة تميِّز كل أعمال "تيودور جريكو" عامة، خاصة منها لوحاته الذائعة الأخرى "الفارس الجريح" و"رسوم المجانين" و"سباق دربي إبسوم" وغيرها.

لقد لعبت جزيرة "آرغين" وقلعتها التي تحولت الآن إلى أكوام من الأوابد المتهدمة المغطاة بالرمال، دوراً كبيراً في التاريخ البحري الأوروبي، كما شكلت نافذة أطلَّ منها على الساحل الموريتاني أثقل الضيوف وأكثرهم قسوة وفظاعة وثقل دم. وقد ظلت هذه القلعة الخاصرة النازفة قابعة في ذاكرة الخرائط البحرية ويوميات البحارة الأوروبيين من عهد الكشوف الجغرافية، حتى خصها البروفيسور الفرنسي الشهير "تيودور مونو" بدراسات معمَّقة نشرها في كتاب صدر عن مركز دراسات علم الخرائط القديمة في لشبونة بالبرتغال.

والجزيرة الآن، وحوض آرغين عامة، تعتبر، كما أسلفنا، محمية طبيعية بالغة الجمال تستوطنها أكثر المخلوقات البحرية ندرة وغزارة، مسالمة وشراسة، وترفرف في سمائها أسراب الطيور المهاجرة والمستوطنة. وهي مع كل هذه التناقضات أغنى موقع في العالم بالأسماك، ما يقدم هدية أخرى إلى جانب روعة مشهدها نفسه لمن يريد زيارتها. وحتى تنطلق "أفواج" الزوار العرب الراغبين في قضاء إجازة صيف ممتعة، والتعرف على جزء عزيز من وطنهم العربي الكبير، فإن حكايات وآثار قلعة حوض آرغين، ستبقى بانتظارهم مستغرقة في أحلام تشبه الهدوء الذي يأتي بعد العاصفة. وينتظر الزوار من الإخوة العرب أيضاً مضيفوهم البسطاء الكرماء من صيادي "إيمراجن" وهم يطوفون وسط هدْأة المكان ومياه المحيط الأطلسي اللازوردية وروعتها واستقامتها الممتدة حتى نهاية الأفق، وبعد الأفق أيضاً.

* قاص موريتاني

ould_mokhtar@yahoo.fr

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف