إيلاف+

دمشق.. سيرة الحب والخوف

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك


بورتريه مدينة

عواد ناصر
مثل الحب، هي أقدم مدن التاريخ.
لمعت في خيال المسيح فاختط له، ولمن بعده، طريق دمشق الذاهب إلى الهاوية.
حلما أو جلجلة.
التاريخ يعيد نفسه مرتين مرة على شكل مأساة وأخرى على شكل... مأساة أيضا:
جاء في مظان الحكايات العربية أن هولاكو لما فرغ من بغداد توجه إلى حلب قاصدا الشام، فلما وصلها( دمشق) كان ملكها قد هرب.
ومنذ ذلك التاريخ راوغتنا، كامرأة مزاجية، مفعمة بالمواعيد التي تتحقق وكأنها لا تتحقق!
امرأة تضفي على أنوثتها عطر التاريخ وحداثة الجغرافيا وديماغوجيا الأمة لتبدو على المانشيت العريض أصعب من إرادة رئيس التحرير وأبعد من ذلك الشاب، القادم من القرية والمعبأ بالطائفة، الذي يضع مسدسه في حزامه يخفيه وهو يريد أن يظهره..
مثل بقية العواصم التي يجد فيها منتهى الوهم، كما يشاء، إلى الحد الذي تختفي فيه آثاره أو عليه مراجعة 279( شعبة أمنية خاصة) ليثبت براءته وسلامة طويته وحسن سلوكه من دون تهمة حتى، حسب لوائح مرسومة.
دمشق هي المدينة العربية الوحيدة التي أمارس فيها عراقيتي الملتبسة وكأني في بغداد، رغم رعب تقليدي أحمله معي ويظهر على وجهي في كل مطار عربي.
تضعني دمشق، غالبا، بالتباس غير قابل للحل عندما يتطوع رجل المخابرات في مطارها الصغير الجميل، مثل بيت دمشقي اختلطت فيه الأصالة بالمعاصرة، ليحمل حقيبتي فلا أعرف هل سيقودني إلى التاكسي أم إلى عربة أخرى مجهولة الإتجاه، وقد تحول ولاء، ذلك الرجل، الفطري من مواطن مسكين يريد أن يعيل عائلته إلى انتماء شعبوي للأمن مقابل راتب شهري ومسدس وبضع ليرات كرشى من الداخلين والخارجين عبر أبوابها السبعة.
في باب توما سهرنا ذات ليلة. مطعم" قصر البلور". يقترب أحدهم ويتوجه بالحديث لي شخصيا(باللهجة العراقية) وباسمي الكامل. يقدم نفسه:
فلان الفلاني، ضابط سابق في جهاز السافاك!!
منعته من الجلوس معنا، بشكل صارم وعصبي. لكنه قبل أن يمضي قال وهو يضحك: هاربون من مخابرات صدام حسين وتعيشون هنا بحماية مخابرات حافظ الأسد.
مثل بقية عواصمنا التي تحيلنا دائما إلى المستقبل بينما ينعم سادتها بالحاضر كله المكفول بماض يزخر بالمجد الغابر يحرس تلك الوعود الكاذبة بالوحدة والحرية والاشتراكية!
غير أني دخلت دمشق فآواني بعض أهلها المبدعين الطيبين وفتحوا لي، ولأمثالي، بيوتهم وقدموا لي شرابهم الشعبي وطعامهم المستساغ، وغالبا ما تكتمل الموائد الأخوية تلك بالحوار الحر، ويحاول بعضهم اللهجة العراقية بطريقة مضحكة، يبادلونك المحبة باعتبارها شرط الأمانة والمواثيق غير المكتوبة، فتتكرر المحبة في البيوت: بيت ممدوح عدوان المتحدث اللبق والكاتب الدؤوب المتنوع، ثم تمتد إلى بيت أخيه أحمد في مصياف الذي يقول عنه ممدوح : أنا أكتب الشعر وأحمد يعيشه) وسعد الله ونوس، المسرحي الآيديولوجي المكتئب وعلي الجندي البوهيمي العاصف قولا لا فعلا ونزيه أبي عفش العصبي دائما والمتشائم أبدا، أو تنتقل إلى فندق الشام حيث ينحسر التقليديون من مشاهر المدينة ويتوافد حديثو النعمة من نجوم المسلسلات التلفزيونية، لكن ممدوح يقترح "بوز الجدي" كأفضل من يعد الفول ويعلق، لاذعا كعادته وهو يسعل سعلته اللازمة:" وين البصل.. فيه فول من غير بصل؟" ثم يفاجئك سائق تاكسي بحديث عن الحداثة والقدامة وما يبرئ العالم من نواياه الخبيثة ضد العرب والمسلمين لأن الأزمة أزمة بنية داخلية عليك أن تحلها بنفسك، فنكتشف أن هذا السائق خريج أدب انجليزي ويتابع آخر نتاجات الأدب والفن في الوطن العربي والعالم منقولا أو منتحلا أو مترجما.
سائق تاكسي آخر يتطبع إلى ماحوله وهو يتمتم: كأنو في شي!!
أقول: افتح الراديو!
الراديو: طائرة مقاتلة اسرائيلية تخترق الأجواء اللبنانية....
أقول لاستفزه: ولماذا لا تسقطها المقاومات الأرضية أو تعترضها الطائرات السورية؟
يقول السائق: كلهم جبناء. شجعان علينا وحبناء مع اسرائيل.
فرحت في سري لأن هذا السائق يفكر بطريقة جريئة ولكنه سرعان ما خيب أملي بقوله: صدام حسين هو الشجاع الوحيد الذي قصف اسرائيل!!
يدخل بندر عبد الحميد المشهد، أو ندخل على مشهده، هذا الحسكاوي العراقي هوى وإيقاعا، المغموس بغبار الجزيرة وبقايا وشمها على رسغه، في ذلك البيت الذي لا يتجاوز الغرفة الواحدة، التي يقلبها يوميا كي يحتال على ضيقها لكنها تتسع الساهرين مهما كان عددهم وكنت تحسبها لا تكفي اثنين هو وصاحبه في الغار.
تكر السنين وتبقى دمشق البيت الأول، كالحب الأول، وما تزال للذكريات جذور وعطور.
نمر بمقهى "الروضة" أولا..
أو "هافانا".
مقهى "الروضة" هو الأكثر شعبية، وثمة ركن للسواح الأجانب، رجال ونساء يتعلمون طاولة الزهر ويتناولون الفول أو سندويتشات الشاورمة من مطعم الريان المجاور.
لكن في شارع" الروضة" جو آخر: حيث قصر الضيافة التي تضيف فيه دمشق شاعرنا الكبير محمد مهدي الجواهري. مرت سنوات طويلة وأنا أحلم بلقائه. مواطني الذي حرمت منه في وطني بسبب منفاه الطويل في براغ، لكن منفاي أتاح لي لقاءه في شارع" الروضة".
لهذا اللقاء قصة طويلة أوجزها بأن طلب حضوري إلى هذا البيت ليملي علي قصيدة جديدة عبر الهاتف من براغ التي يزورها للراحة هذه المرة. الموعد هو الساعة الثامنة والنصف مساء لكن الجواهري لم يتصل إلا منتصف الليل.
كنت مبتهجا جدا لأنه اصطفاني، من بين شعراء وكتاب عديدين ليملي قصيدته الجديدة،
"هافانا" مثقفة أكثر من الروضة وأغلى خدمة، ففيها المثقفون وبعض صفقات الثنائية العربية: الثقافة والإعلام!
عفوا، هل يجوز تجاهل"أبو حالوب" ذلك العراقي الطيب، بل اطيبنا نحن المقيمين في الشام.. وفي العراق أيضا. خرج مع الهاربين من العراق وهو لم يزل شابا. هو من أولئك الذين لا يطيقون رؤية مقتل ذبابة كما نقول. من أوائل المقيمين ولم يزل. "أبو حالوب" لا يعمل لكنه عائش كيفما اتفق. بالصدفة. أو هو لا يجيد أن يعمل غير زبون في مقهى" الروضة". زبون مخضرم.. فصاريقوم بوطيفة المختار، مجانا، ولكن بلا ثمن لأي جهد فلا وشاية ولا أختام مدفوعة الأجر. ما أن يراك جتى يهب مرحبا مهللا ويأتيك بالأخبار من لم تزود: ترك لك رياض رقم تلفونه. أبو سامر أصيب بالسرطان. بنت أخت كاظم جاءت لزيارته في الشام وستعود إلى العراق بعد يومين إذا أردت أن تبعث شيئا إلى بغداد. مظفر تعبان صحيا، لكنه لم يزل يطبخ طعاما لذيذا. تغديت عنده أمس. أبو حالوب دائرة هجرة مختصة بالعراقيين. لا تفارقه صحيفة" السفير" اللبنانية، وإذا لم تبع هذه الصحيفة غير صحيفة واحدة في اليوم فاعلم أن مشتريها أبو حالوب لا غير.
وأطلب من أبو حالوب رقم تلفون عامر بدر حسون. واحد من أكثر صحفيينا العراقيين حساسية أزاء الأحداث، والمديونير الذي يتصرف كمليونير. تواعدنا في نادي الصحفيين( طلعة العفيف).
لنسهر في بيت بندر فنتسوق من سوق الشعلان، المجاور لشارع الحمرا، وهي سوق لم أر مثل ما يعرض فيها من فواكه وخضر في واحدة من أكثر براعات الدمشقيين فنا لتجبرك على التأمل كبداية للوقوع في فخ الشراء عبر النظر المحض.
لكن لابد من المرور بـ "الصالحية" وهي أحدى سوقين لابد لزائر الشام من زيارتهما. الثانية هي "الحميدية" لابد، طبعا.
في الأولى يجري السباق بين التسوق والتسوق: تتبضع حاجياتك وتمتع نظرك بالجمال الشامي الذي يأسر العين، رغم ظاهرة اتساع الحجاب، ولكن هيهات للحجاب الخارجي أن يمنع القلوب، تحته، من نبضها السموع بالحب والفتنة.
أما في الثانية( الحميدية) فثمة كل ما يحتاج المرء من الأقمشة حتى التوابل( في البزورية) وأشهر محل للحلويات والبوظة"بكداش" الذي ينافس المرحوم خالد، الشيوعي التقليدي، شهرة وووو.
وفي دمشق ثمة احتمال ملح للورطة، فما أن بلغت" الحميدية" فإلى جوارها الجامع الأموي، ويقال إن والي دمشق سأل أحد عمال البناء، أثناء بناء الجامع، وكان يحمل أكبر الأحجار واثقلها، من أين أنت؟ فأجاب العامل: من العراق. فرد الوالي قائلا: لله دركم أيها العراقيون، متطرفون حتى في إبداء الولاء.
وثمة السجن العتيق الذي لم تزل أسواره قائمة لصق الجامع، بالضبط. التلازم التاريخي!
يحاذي الأسوار شارع طويل يؤدي إلى أشهر مقاهي دمشق:" النوفرة". مقهى صغير لم يزل يحضره الناس للاستماع إلى الحكواتي.

نعود إلى غرفة بندر في شارع العابد، قريبا من" الروضة" لقد تسوقنا ما نحتاج وهناك سنجد صالح علماني، أروع من ترجم غابريل غارسيا ماركيز إلى العربية وأفضل من" يطبخ" السلَطَة، حسب. ويحضر محمد كامل الخطيب كاتب القصة القصيرة والمسكون، أيضا، بـ " المسألة الشرقية ورجلها المريض".
يفيض الشوق ويدب شيء ما في العروق المبلولة وأهتف بما يشبه التمتمة المسموعة:
رجاء لا تحرمونا من دمشق.
لا تدعوها، يا أصدقائي الرائعين، تتهاوى تحت سنابك هولاكو، مرة ثانية، كما حصل لبغداد.
دمشقكم، حريتكم، وأنتم الأولى والأجدر والأعرف.
لا أتمنى لكم حيرة الخيار القاتل: أما الطغاة وأما الغزاة!

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف