بين المتنبي وسوق السرّاي تاريخ الثقافة العراقية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
اسماعيل ابراهيم من بغداد: يقع شارع المتنبي- الذي بات شهيرا في العراق وخارجه- وسط بغداد وتستطيع الوصول اليه من شارع الرشيد اذ هنالك فرع يؤدي الى نهر دجلة هذا الشارع الفرعي هو ( شارع المتنبي ) في
شارع المتنبي لا يزيد عرضة عن 12 م 2 اما طول الشارع يقارب 250 م 2 يضم اقدم المكتبات العراقية وأكثرها عددا وعناوين. وفي يوم الجمعة يمتلئ الشارع وعلى جانبية بالكتب المبسوطة على الارض. والتي باتت تعرض اكوما اكوما وبين فترة واخرى تسمع مناد ينادي على مزاد الكتب لتعرف حينها ان مزاد الشطري قد بدأ.
الجبقجية
ولمعرفة تاريخ السوق ومتى أسس واقدم المكتبات فيه اتجهنا الى الباحث والمؤرخ الأستاذ
( زين احمد النقشبندي ) 44 سنة وهو عضو اتحاد المؤرخين العراقيين منذ 1981 وله كتاب مطبوع بعنوان ( مباحث في اوائل المكتبات والمطبوعات البغدادية ) والذي قال لايلاف: في نهاية العهد العثماني أنشأ سوق
أول مكتبة
وان اول مكتبة أًًنشأت في السوق هي المكتبة العربية التي أسسها نعمان الاعظمي الكتبي سنة 1904 والمكتبة
اما مكتبة حسين الفلفي فتأسست سنة 1930 وهي باقية في مكانها القديم في سوق السرّاي ويقوم بإدارتها أحد بناءه. وكذلك مكتبة المحاكم وهي كشك صغير تأسست سنة 1944 وهي مختصة ببيع الكتب القانونية.
طاغور في سوق السراي
وفي سؤال من إيلاف عن أهم الحوادث التي مرت على السوق أجاب الأستاذ النقشبندي.
هنالك حوادث كثيرة منها ان مقتل السيد عبد الكريم ملا خضير والذي قتل امام مكتبته في حوادث سنة 1944
ويذكر ان الشاعر الهندي الكبير ( طاغور) قد زار سوق السرّاي في الثلاثينيات من القرن الماضي وقد استقبل بحفاوة كبيرة من قبل رئيس مجلس الوزراء عبد المحسن السعدون والزهاوي والرصافي وفهمي المدرسي. كما ان الأديبة المصرية ( بنت الشاطئ أيضا زارت السوق واغلب الأدباء العرب مثل احمد حسن الزيات والمازني وغيرهم كثيرون، ولا يفوتني ان اذكر المستشرق لويس ماسيون قد زار السوق.
ان سوق السرّاي إضافة الى انه سوق لبيع الكتب فقد كانت مكتباته صالونات أدبية راقية تعقد فيها جلسات أدبية يحضرها اشهر الأدباء والساسة العراقيون.
في سنة 1998 حدث حريق هائل في مخزن مكتبة المعارف على أثرة أتلفت كثير من الكتب
واقول للتاريخ ان أسوء فترة مرت على السوق هي فترة حكم النظام السابق والتي شهدت تشدد أمنى لا مثيل له على الناشرين والمطبعات والباعة ومنعت كثير من الكتب الأدبية والتاريخي والدينية، حتى ان كتب طبعت بأشراف وزارة الأوقاف العراقية منعت بعد ذلك لكون المحقق اصبح معارض او كتب مقال ضد النظام او ان احد اقرباء الكاتب او المحقق موقوف في الأمن، وكان رجال الأمن يراقبون المكان على مدار الساعة وكثير من الباعة الأبرياء تم سجنهم او إعدامهم لان كتاب من كتبهم المعروضة للبيع ممنوع وهم لا يعلمون انه ممنوع لانه طبع بأشراف الحكومة العراقية.
دماء على الكتب
بعد ان ودعنا السيد النقشبندي اتجهنا الى دار ومكتبة الباقر لطباعة ونشر وتوزيع الكتب لصاحبها الأستاذ ( علي نومان ) والتي تقع في وسط شارع المتنبي وقد بادرته إيلاف بالسؤال عن ماهية الكتب التي عليها إقبال من القراء فقال " لا شك ان الكتب الدينية والتي كانت ممنوعة في زمن النظام السابق وخاصة التي تتعلق بالفكر الشيعي هي تشكل رقم واحد في الطلب إضافة الى الكتب السياسية والكتب التخصصية مثل القانونية والعلمية واللغوية " من اين تأتون بهذه الكتب " يتم استيراده من ايران وبيروت علما ان الكتاب الإيراني ارخص ولا يقل كفاءة عن طبعة الكتاب اللبناني كما ان الشحن والنقل يقل من كلفته قياسا للكتاب اللبناني.
لماذا لا يتم طباعة الكتاب هنا في العراق ؟ أجاب السيد علي فرمان : نعم ان كلفت طباعة الكتاب هنا تكلف كثيرا لان الورق وكذلك الأحبار يتم استيرادها من خارج العراق ولا يوجد دعم من الحكومة العراقية للناشر والذي عرفته من دور النشر في الدول التي نستورد منها الكتاب ان الحكومة هناك تدعم الناشر من حيث تزويده ببند الورق ( البطال ) مثلا وهو من بسعر 30 دولار أمريكي في السوق التجارية يعطى له بسعر مدعوم وهو 8 دولارات فقط اما هنا فلا يوجد هذا الشيء. إضافة الى انه في فترة النظام السابق كان يوجد قانون يلزم الوزارات والمؤسسات الحكومية بشراء مجموعة من الكتاب المطبوع دعما للناشر والان هذا غير معمول به، علما ان هذا القانون موجود في ايران وسوريا ومصر حسب ما علمت.
ان السوق العراقية متعطشة جدا للكتاب ولازالت تفتقر الى الكتب العلمية والقانونية الحديثة وان الإقبال على هذه الكتب شديد من طلبة الجامعات العراقية.
(( بعد هذا اللقاء بثلاثة ايام علمت ان السيد علي فرمان قد لقي مصرعه على يد إرهابيين اطلقوا عليه النار داخل مكتبته فأردوه قتيلا بين كتبه والتي اصطبغت بالون الأحمر وقد اخبرني من نقل لي الخبر ان الشهيد المظلوم قد سقط على دورة لكتاب كان جلبها حديثا لغرض بيعها للسيد محمد باقر الصدر وقد احتضن احد هذه الكتب وفارقت روحه جسده انا لله وانا اليه راجعون )).
ثقافة الاستنساخ
وفي شارع المتنبي يوم الجمعة بالذات لا تكاد تجد لك متسعا للمرور وسط الشارع من كثرة المارة والكتب التي وزعت على طرفي الشارع وسط هذا الزحام تسمع صوت السيد نعيم الشطري وهو ينشد بيت للشاعر السيد مصطفى جمال الدين :
بغداد ما اشتبكت عليك الاعصرًُ ألا ذوت ووريق عمرك اخضرُ
الشطري 67 سنة وهو من مدينة الناصرية قضاء الشطرة يقول انه يزاول هذه المهنة منذ سنة 1963وانه أول من عمل مزاد لبيع الكتب كان ذلك في سنة 1992 بعد فرض الحصار الاقتصادي على العراق وتدني مستوى المعيشة، وانه قد اشترى الكثير من مكتبات الأدباء العراقيين والذين يحتفظ بأسمائهم تكريما لذكراهم الا انه اخبرنا بان من باع مكتبته علنا امام المليء هو الفنان العراقي ( راسم الجميلي ) وكذلك الفنان ( عبد الستار البصري ).
وان الكتب الرائجة حاليا هي الكتب الدينية ( الشيعية والسلفية ) وبعض الكتب الفكرية وهي قليلة جدا واحيانا يتم استنساخها وبيعها.
الفلفلي
ومن شارع المتنبي دخلنا الى سوق السراي وهو شارع ضيق عرضه لا يتجاوز 5 م 2 وطول الشارع 200م 2 اتجهنا الى مكتبة (حسين الفلفي) المكتبة الوحيدة من المكتبات القديمة التي بقيت هنا في سوق السراي ولم تنتقل
وسألناه عن سبب تمسكه بهذه المهنة (بيع الكتب) رغم ان سوق السراي قد اخذ منحى آخر في بيع الهدايا والقرطاسية قال السيد اكرم " الحقيقية ان هذه المهنة بالنسبة لنا ليس مورد رزق فقط بل هي تاريخ للعائلة وهو خط انتهجه الوالد ولا زلنا محافظين عليه خدمة للثقافة التي أصبحت جزء منا لا نستطيع تغيره أبدا).
رواد
كما التقت " ايلاف " بالأستاذ ( علي المندلاوي ) 39 سنة متخصص في بيع الأدوات الخاصة بالفنون العامة كالخط والرسم والنحت يعمل في سوق السراي منذ سنة 1985 قال "ان سوق السرّاي تأسس في سنة 1917 وقد مرت عليه عدة تغيرات من حيث المكتبات الي انتقلت الى شارع المتنبي او الى شارع السعدون باستثناء مكتبة الفلفي وأيضا تغير من حيث العمران حيث سابقا كان السوق مسقف ببليت الحديد (الجينكو) والخشب وارضية السوق مفروشة مبلطة بالفرشي وهو طابوق قديم وقد تغيرت معالم السوق في سنة 1990 - 1992 بعدما قامت أمانة بغداد وعلى نفقة أصحاب المحلات بكساء واجهة المحلات بالطابوق الحديث (جفقين).
والتي تستخدم للهدايا والقصد منها الربح المادي وليس مزاولة المهنة لكونها وراثة من الأجداد
واضاف المندلاوي " ان هذه المهنة في بدايتها كانت صعبة بالنسبة لي لتشعبها وندرة موادها ولكن خلال ثلاثة سنوات عرفت كل شيء عن إسرار المهنة واحببتها لذلك انا متمسك بها ولا ابحث عن بديل، ويقول لقد تكونت لي صداقات عديدة مع كثير من الفنانين العراقيين حيث كان من رواد المحل المرحوم اسماعيل فتاح الترك (من اشهر أعماله تصميم نصب الشهيد) والأستاذ وليد شيت والدكتور طه البستاني والمرحوم الخطاط محمد البلداوي والخطاط عباس البغدادي ( وهو من خط القرآن الكريم بدم صدام ) والذي هو الان خارج العراق، ومن الفنانين الرسامين الشباب الذين غادروا العراق عباس مخرب وعلي عباس وهما الان في استراليا وكذلك الرسام محمد جمعه في فرنسا وبشيء من الحصرة يقول المندلاوي " ان سوق السرّاي تحول الى سوق عام بعد ان كان مختص في العلم والفن وهو الان للتجول وليس للتبضع، والمحلات شيء فشيء تحولت الى تجارية لبيع الهدايا، ورغم هذا لازال لدى رواده ومحبيه يعتبر بالنسبة اليهم زيارة السوق في يوم الجمعة من المقدسات لان بعضهم دئب على زيارة السوق منذ ان كانوا طالبه ثم تخرجوا واصبحوا أساتذة في الجامعات واحيلوا على التقاعد ولازالت زيارتهم للسوق لم تنقطع لا يؤثر فيها برد الشتاء او حر الصيف انه حب من نوع خاص ربطهم بهذا السوق رباط العلم والمعرفة.