إيلاف+

الجنوب اللبناني ينهض من جديد

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

إعادة الإعمار تطغى على المشهد السياسي

عماد الدين رائف: "خمس حروب مرت من هنا". خمس حروب مرت على ابن الجنوب اللبناني، خمسة اشهر مرت بطيئة على انتهاء الحرب الخيرة الأكثر تدميراً في تاريخه. آلاف المنازل المدمرة كلياً أو جزئياً أخذت أربع دول خليجية على عاتقها إعادة إعمارها بشكل أساسي من خلال تعويضات مباشرة لأصحابها، هذه الدول هي: السعودية، وقطر، والإمارات، والكويت. فيما تتولى دول مانحة أخرى كالأردن ومصر واليمن وسوريا وإسبانيا عمليات إعمار متفرقة في الجنوب، الذي رزح تحت وطأة أكبر الهجمات همجية في التاريخ المعاصر، فقد طالت موجة التدمير كل ساكن ومتحرك من حجر وبشر، طالت الأزقة والجسور والطرقات الرئيسية والفرعية، المنازل والحوانيت، البنى التحتية والمزارع والدساكر، إمدادات المياه والكهرباء، ولم توفر دور العبادة والمدارس.
يتفاعل أبناء الجنوب اللبناني يومياً مع أخبار "التعويضات والتقديمات الآتية من إخوانهم الخليجيين فينظرون إلى مستقبل ملؤه الأمل وقلوبهم لاهجة بالشكر، على وقع قرع مستمر لطبول الحرب من قبل أعداء ألداء محكومون بجيرتهم". هذا لسان حالهم، فعلى بعد أمتار من المنازل المدمرة تربض آلة التدمير الحربية الإسرائيلية، التي تعوّد الجنوبيون على شراستها وقوة تدميرها، "ولم تعد تخيفهم بعد انتصارهم عليها في الحرب الأخيرة".

الخيام مجدداً
بعد ثلاث ساعات طويلة من مغادرتنا للعاصمة المثقلة بالمناكفات السياسية، نطل على الخيام التي يفصلها عنا اهلها، السهل الذي تحول خلال الحرب الخيرة إلى مقبرة للدبابات الغازية. السكون الصباحي لا يعكره غير بحث يائس للسائق عن نشرة أخبار "نحن في غنى عنها"، كما يعلق زميلنا المصور فراس. تمر دوريات قوات اليونيفل الدولية ببطء، تستفيق البلدة الجنوبية التي دمرت أكثر من مرة وأعيد بناءها بعد كل حرب على ورشة إعمار كبيرة.
يبلغ عدد أهالي بلدة الخيام حوالي 28000 نسمة، يقيم فيها 6000 نسمة على مدار السنة، في البلدة 4600 وحدة سكنية و250 وحدة تجارية. تضرر وفق مصادر البلدية جراء العدوان حوالي 4000 وحدة سكنية بينها 500 هدمت كلياً. بالإضافة إلى ذلك هدمت حسينيتان جزئياً، ومجمع ثقافي يضم معهداً ومسجداً وست محطات وقود ومدرستان خاصتان، وهدمت اثنتان من المدارس الرسمية وتضررت واحدة بشكل جزئي بالإضافة إلى مهنية البلدة المسماة مهنية شهداء الخيام وقد تضرر مسجدان وكنيستان.
بالإضافة إلى ذلك فقد دمر معتقل الخيام بشكل كلي، وهو معلم مهم من معالم البلدة وكان يستعمل كسجن عسكري إبان الاحتلال الإسرائيلي قبل التحرير عام 2000، وتضرر المنتجع السياحي الذي يضم 20 وحدة سكنية ومرافق سياحية بشكل كبير، ودمر المتحف التابع للمستشفى العسكري الإنكليزي العائد إلى فترة الحرب العالمية الثانية ولحقت بالمركز الصحي أضرار جسيمة. أما الأضرار في القطاع الزراعي، وهو العمود الفقري لحياة البلدات الجنوبية، فقد أتلف العدوان 3000 دنم من الأراضي الزراعية والأشجار المثمرة فيما لا يقل من مليوني دولار، ونفق 250 رأس بقر، و500 غنم وماعز ومئات الطيور. وعن الآليات فقد دمرت 300 سيارة بالإضافة إلى 5 آليات للبلدية و1120 حاوية لجمع النفايات.
كانت البلدة في زيارتنا الأولى لها بعد الحرب مباشرة مقطعة الأوصال بسبب الركام الهائل الذي نتج عن دمار البيوت والمحال والبنى التحتية، وكان الركام يسد الأزقة والطرقات، أما اليوم، فقد استعادت البلدة التي حضنتها دولة قطر الشقيقة، بعضاًَ من شكلها القديم. فبعد إزالة الركام، والتعويض على أصحاب المنازل المتضررة جزئياً، ها هي اليوم تصل التعويضات المباشرة للمنازل المدمرة غير الصالحة للسكن، وقد أفادت التقارير أن المرحلة الثانية من تقديم التعويضات ستتم خلال الأيام المقبلة بشكل سلس وبآليات واضحة بعد تقييم الأضرار من قبل فرق متخصصة بذلك. على صعيد آخر فإن العمل على البنى التحتية جار على قدم وساق بشكل متسارع، فقد عادت التغذية الكهربائية للبلدة جارية على التقنين المتعارف عليه، وكذلك تمت إعادة بناء خزان المياه الرئيسي للبلدة، ويربض بجانبه خزانان إضافيان عملت المنظمات الدولية على بناءهما في فترة سابقة.

مع الناس
البلدات المستفيقة على رائحة الخبز الصباحي يتجمع الشباب والكهول في ساحاتها، كانت التعويضات قد وصلت إلى أبي راغب، وهو يملك فرناً صغيراً للمناقيش، يقول: "دمر منزلي أكثر من مرة خلال حروب متكررة، لكنها المرة الأولى التي تصل فيها التعويضات بهذا الشكل السريع ومن غير غبن"، في الفرن الصغير يتحلق الشبان حول أبي راغب منتظرين الفطور الشهي، بينما تنظر سيدة خمسينية بفضول إلى الكاميرا وآلة التسجيل، تقول: "لم يصلني الشيك بعد، وذلك أن بيتي قد دمر كلياً ونحن بانتظار التعويض عن هذه الفئة ودورنا لم يصل بعد"، تعيش الحاجة فاطمة مع أعمام أولادها مؤقتاً كي يتسنى لها أن تعيد بناء منزلها المليء بالذكريات، تضيف: "كان بيتي متواضعاً لكنه يمثل كل شيء بالنسبة لي، فبعد أن توفي زوجي ربيت أطفالي فيه، واليوم كبروا وتزوجوا وأنجبوا، لكنه بيتي.. أتفهم ذلك؟". تنظر فاطمة بعينين مغرورقتين بالدموع على جنى العمر.
ساحة الخيام استعادت وجهها المشرق، وعادت الحياة إليها وإن كان من الصعب على زوار أمثالنا أن يحددوا أماكن البيوت المدمرة وأعدادها، وذلك أن كثيراً منها قد أزيل نهائياً، وغدا باحات إضافية متصلة بالساحة الأم تنتظر مواد بناء، أما جامع البلدة الذي أزيل من مكانه فشكل فراغاً كافيا للإطلالة على باحات فارغة أخرى كانت بيوتا قبل العدوان. يتحدث علي عن المشروع القطري، يقول: "لم أتوقع أن تكون المساعدات سريعة فقد مدتنا إحدى الجمعيات الأهلية القطرية بالمواد الغذائية والمستلزمات البقاء في الفترة الأولى بعد الحرب، وها هم الأخوان القطريون يدفعون مبالغ كافية لإعادة ترميم المنازل ومنزلي قد رممته من خلال هذه المساعدة، وفي مرحلة لاحقة سيدفعون للمنازل المدمرة كلياً".
من الخيام إلى بليدا وكفر كلا وعيترون ومارون الراس وبنت جبيل وعيثا الشعب، بلدات وقرى المواجهة الأخيرة مع آلة التدمير الإسرائيلية، يعمل السعوديون والإماراتيون والقطريون على بلسمة جراح الناس الطيبين الصامدين الذين "بذلوا كل ما لديهم في صمود ومواجهة عن الأمة العربية والإسلامية كلها" كما يرى محسن، يقف العجوز على اسفلت الطريق الطازج مشرفاً على أشجار الزيتون في حقله "المليء بالقنابل العنقودية التي أرسلها الإسرائيليون هدايا خاصة بي"، كما يقول. يضيف: "تعمل فرق متخصصة على إزالة هذه القنابل، لكن الإسرائيليون أفرغوا مخازنهم كلها علينا فعلي أن أصبر قليلاً كي تزال هذه المخلفات من حول الأشجار، لم أستفد من الموسم الماضي شيئاً، وذلك أنني لم أتجرأ على قطف الزيتون، أما الموسم القادم فسأعمل على جنيه بإذن الله".
بعد جولة القرى تضمنا الخيام من جديد، يتحول سهلها إلى لوحة فنية لا تشبع منها العين وقت الغروب، ذلك السهل الذي تحول إلى مقبرة للدبابات الإسرائيلية ما زالت آثار عجلاتها ظاهرة في أماكن منه، لكنها كما يقول أهل الخيام "لن تعود مجدداً بعد الدرس القاسي الذي تلقتنه في حربها الأخيرة".

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف