إيلاف+

تاريخ الحرامية في مصر 2

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

من "عبده كاكا" إلى لصوص البنوك
تاريخ "الحرامية" في مصر

الجزء الثاني

نبيل شرف الدين من القاهرة: حتى اللصوصية أصابها ما أصاب غيرها من أنشطة الحياة في مصر، من ممارسات تقف في المنطقة الفاصلة بين الشر المستطير والعبثية الخرقاء، فحتى "لصوص زمان"، كانت لهم تقاليدهم وأعرافهم المرعية، كألا يسرق اللص "النبيل" أهل قريته أو الحي الذي يقطنه، بل وطالما تصدى اللصوص لزملائهم الآخرين حين كانوا يحاولون استهداف جيرانهم وذويهم .
لكن منذ الانقلاب العسكري الذي أطاح الملكية في مصر، تبدلت أحوال كثيرة، لم يكن مجتمع "قاع المدينة"، والعالم السري للخارجين على القانون بمنأى عنها، فصار اللص "قيّماً" على "أموال الشعب"، إذ ظهرت طبقة جديدة من اللصوص "الثورجية" الذين ترعرعوا في كواليس شركات القطاع العام، وظلوا يكبرون ويتضخمون، حتى كان التحول الثاني في زمن "الانفتاح"
وأخيراً وصلنا إلى مرحلة "الفكر الجديد" حيث السرقة من المنبع، من بيوت المال أي البنوك، ولم يعد اللصوص بالضرورة من المحتاجين، بل من الجشعين الأنانيين، ولم تعد أدواتهم هي "الطفاشة" أو "الأجنة" أو حزمة المفاتيح، بل صار اللص "باشا قد الدنيا"، يرتدي السموكنج، ويدخن السيجار، ويركب السيارات الفارهة، ويتأبط ذراع إمرأة لعوب، ويستخدم لحمايته و"برستيجه" فريقاً من البلطجية كحراس خصوصيين، ويخطط لجريمته بعناية بالاشتراك مع فاسدين متنفذين في أروقة السلطة، فالمهم أن يكون "الورق سليم، ويمشي في الحديد"، وبعد ذلك هناك فرق قانونية على أهبة الاستعداد للدفاع عنه، حتى يحصل على البراءة الإجرائية، وفي التفاصيل تسكن الشياطين، فإلى هناك نحاول الاقتراب من هذا العالم قدر المتاح .

الغجر والحلب والهنجران
وبالتأكيد سيثور تساؤل في ذهن القارئ عن سبب رضا النساء بهذا الأمر وقد حاولنا بدورنا التوصل لتفسير منطقي لهذا السلوك فالتقينا بإحدى نساء الهنجرانية وتدعى "عزة"، وهى واحد من أشهر نشالات مصر رغم صغر سنها فضلاً عما تتمتع به من جمال وأناقة وحينما سألتها عن تفسير لهذه الظاهرة أجابت :
ـ دى عاداتنا طلعنا لقيناها كده وبعدين الراجل بيدفع مهر كبير في الواحدة مننا ممكن يوصل ميت ألف جنيه يأخذهم أبوالعروسة.
وماذا يفعل الأب بهذا المهر؟
بياخد هو وأمها حق تربية البنت وتعليمها الصنعة والراجل يجهز بيته من مجاميعه والعروسة بتيجى بشنطة هدومها بس.
وكم دفع زوجك مهراً لك؟
أنا اتجوزت سنة 1986، وجوزي دفع وقتها خمسين ألف جنيه.
وهل شارك والدك في تجهيز الأثاث أو الأجهزة الكهربائية مثلاً؟
لا طبعاً، هو ماله بالموضوع ده بيت العريس وهو يجهزه براحته إن شالله يفرشه بحصيرة وقلة.
وهل تحتفظين لنفسك ببعض النقود التي تحصلين عليها من النشل؟
لأ طبعاً، دى حق الراجل إللى اشترى بس ممكن أطلب منه قرشين لو عايزة أشترى حاجة لنفسي زى الهدوممم أو طلبات الحريم.
وماذا يفعل زوجك في مقابل هذا؟
أهو قاعد ينبسط ولما اتمسك أو أتحبس بيجري ورايا ويشد لي محامي ويصرف على في السجن ويأخذ باله من العيال.
وهل تغيرت هذه التقاليد الآن؟
أه شوية، دلوقت فيه بنات بتعشق عيال مسجلة، وتخرج عن طوع أهلها وتتجوزهم.
وتستدرك قائلة : أصل الهناجرة ما يحبوش الحرام, يعني الواحدة منا ممكن تسرق وتتحبس لكن مش ممكن تغلط وتمشي في الحرام ولما تغوي واحد تطلق من جوزها وتجوزه على سنة الله ورسوله.
ولكن بعض نساء الهنجرانية يحترفن الرقص؟
دول مش هنجرانية ممكن يكونوا حلب أو غجر وهما قرايبنا بس كل ناس ليها كارها ولعلمك دول برضو بيرقصوا في الموالد والكازينوهات بس ما يغلطوش مع حد ورجالتهم بيشتغلوا معاهم يغنوا ويطبلوا ويغنوا ويلموا النقطة.
وهل يحق للمرأة الهنجرانية طلب الطلاق في أي وقت؟
بعد سنة جواز ممكن الواحدة تقول لجوزها عايزة أطلق ولزمن يطلقها وإلا تسيبه وتروح تسرح وتدى الغلة لأمها وتفضل لما تحوش نص مهرها ويأخذه ويطلق دوغري.
- وماذا يحدث لو رفض الزوج الطلاق؟
نروح للحاجة الكبيرة، ما هو كل عيلة فينا ليها حاجة هى إللى تأمر وكلامها يمشي على الكل وتبعت لأم الراجل وأم مراته وويحلوا مع بعض واللي يتفقوا عليه يتنفذ.
وما دور الأب في مثل هذا الموقف؟
ـ دي عوايدنا الحاجة الكبيرة هى صاحبة الكلمة ولا مؤاخذة دا شغل الحريم، الرجالة ملهمش إلا الانبساط والمصاريف ولما تسأل الراجل في موضوع زي ده يقول لك مليش دعوة روح لأمها، أنا ربيت وجوزت وخلاص.

دستور اللصوص
الحديث مع نموذج مثل سيد الجن يكاد لا ينتهي من فرط إثارته وأهميته، وهو بالتأكيد لم يسمع عن "عثمان الخياط" الزعيم الفكري للصوص الذي تحدث عنه الجاحظ في كتابه المفقود عن "حيل اللصوص" والذي يؤرخ فيه لحياة أشهر اللصوص في العصر العباسي هو عثمان الخياط بقوله: "إنما سمى خياطاً لأنه نقب منزل أحذق الناس في (صناعة) التلصص وأخذ ما في بيته وخرج وسد النقب كأنه خاطه فسمى بذلك" ومن المعروف أن الخياط كان يعد بمثابة الزعيم الفكري للصوص ذلك الزمان إذا أنه وضع الأسس والمبادئ المهنية والأخلاقية أيضاً التي ينبغي أن يتسم بها اللصوص وقد ورد في نصائحه لتلاميذه قوله: "اضمنوا لي ثلاثا أضمن لكم السلامة: لا تسرقواا الجيران واتقوا الحرمات ولا تكونوا أكثر من شريك مناصف.
الدكتور محمد رجب النجار، في كتابه القيم عن الشطار والعيارين في التراث العربي أن وصية عثمان الخياط كانت بمثابة الدستور لأول اللصوص مؤكداً أن احتراف هؤلاء للصوصية والاحتيال لم يقف حائلاً دون اتسامهم ببعض الأخلاق الحميدة كالعزم والمروءة والشهامة في التزامهم بأعراف وآداب وتقاليد صارمة يستدل على ذلك بوصية عثمان الخياط التي يقول فيها: ما سرقت جاراً وإن كان عدواً ولا كريماً ولا كافأت نمادراً بغدره، وقد ظل الأشقياء من اللصوص يحتفظونن بشئ ضئيل من "أخلاقيات" أسلافهم كالشهامة والشجاعة والتعصب لأهل الحى هذا إذا خربنا صفحاً عن نظرة الثلاثين الوضعية لهم فإن الثابت أن هناك ثمة إعجاب شعبي ببعض هؤلاء الخارجين على القانون وهو الأمر الذي يذكرنا بالنماذج المعروفة في الثقافات العالمية الأخرى عن اللص الشريف ومن هؤلاء "روبن هود" اللص الإنجليزي النبيل حتى أن بعض الباحثين والمفكرين الإنجليز نظروا إليه باعتباره بطلاً شعبياً يعبر عن رغبات الناس وآمالهم وطموحاتهم في الحرية ورفض مظاهر الظلم من جانب السلطات وتحديها وإحراجها وكشف عجزها عن تحقيق العدالة أحياناً .

تقاليد وأعراف
وفي التراث المصري المعاصر مازالت سيرة "أدهم الشرقاوي" يتناقلها العامة بشئ من الإعجاب ويتناولها المتخصصون في الفلكلور بوصفها بطولة للرجل العادي الذي حارب الاستعمار والحكام الظلمة بأسلحتهم فيهرب من السجن ويتوسل بالحيلة والدهاء في النكاية بالمستعمرينن الإنجليز حينما ارتدى زي الضباط وانتحل صفة "حكمدار الإقليم" وتحدث بالإنجليزية وذلك على الرغم من الحقيقة التاريخية الثابتة بأنه كان مجرد لص مواشي "بالمنسر" الذي تعود أصوله التاريخية للعهد المملوكي الذي ذكره ابن عباس في "بدائع الزهور" بأن "المنسر الواحد يتكون عادة من ماله نفر ما بين مشاة وراكب ومعهم قسى ونشاب وينهبوا أموال التجار والعسكر من المماليك وعملوا من المفاسد ما لا يسمع بمثله" ويحدثنا عن أشهر شيوخ المناسر وهو عبدالدايم الذي يصفه بأنه "كان عاصياً على السلطة من أيام السلطان إليه حين دخل سليم الأول مصر وتواطأ معه خاير بك ضد طومان باى توجه المناسر إلى بيت الأمير خاير بك أو كما أطلق عليه العامة "خاين بك" فنهبوا ما فيه من السلاح والخيول والجواري والعبيد ولعل أشهر نماذج المناسر "ابن عمروس" الذي عاش في القرن الثاني عشر الهجري وظل يقطع الطريق أكثر من ثلاثينن عاماً خارجاً على السلطة والقانونن في صعيد مصر وحينما اشتهر عنه ذلك بادر الأغنياء إلى إرضائه بالأموال اتقاء لشره وصونا لكرامتهم وتؤثر عنه حكايات تتحدث عن كرمه وعطفه على الفقراء والضعفاء ورعايته للأيتامم والأرامل فضلاً عن منظوماته الشعبية الشهيرة برباعيات ابن عمروس والتي تعد وثيقة اجتماعية وتاريخية بالغة الروعة والأهمية بمالها من دلالات تتناول القيم والإعراف الشعبية التي لازالت حية حتى يومنا هذا .
ومن التقاليد الراسخة في العالم السري للصوص والمناسر والتي مازالت بقاياها حية بنسبة ضئيلة حتى اليوم التزامهم باحترام ما يمكن تسميته "بشرف المهنة" وأنهم يتبرؤن ممن يخالفها ومنها على سبيل المثال أن الذي يبادرهم بإلقاء السلام يسلم من شرهم وإذا أكلوا مع شخص ذات يوم أصبح له في أعناقهم "حق العيش والملح" فلا يبادرون إلى إيذائه ما لم يبدأ هو بالخيانة، ولا يقتحمون منزلاً به امرأة أو أرملة وحيدة بل يتطوعون لحمايتها وقضاء حوائجها وإذا سطوا على بيت أهله نيام واستيقظ طفل رضيع فجأة توقفوا عن السرقة وتركوا ما حصلوا عليه من مسروقات ومن الحوادث الشهيرة في أسيوط أن خط الصعيد الشهير علم بقيام أحد رجاله بقتل طفل رضيع أثناء سرقته لمنزل أحد الأثرياء الأقباط فما كان من الخط إلا أنه أطلق رصاص بندقيته على ذلك الرجل وألقى بجثته من أعلى جبل درنكه حتى يعرف بالامر كل الأهالي مؤكداً ـ وهو اللص قاطع الطريق أن قتل النساء والأطفال ليس من شيم الرجال عموماً وأبناء الليل خاصة.

عبده كاكا
وفي لقاء مع اللص العجوز الذي أشرنا إليه في البداية، وهو "عبده كاكا"، روى حكاية لها دلالتها في هذا السياق جرت أحداثها عام 1968، فقد قام هو وزميل له بالسطو على منازل أحد الأثرياء بحي الزمالك واستطاعوا سرقة خمسة كيلوجرامات من المشغولات الذهبية، ووقع عبده قبضة الشرطة بينما تمكن زميله من الفرار بالمسروقات التي لم يتوصل إليها البوليس ورغم ما تعرض له عبده كاكا، من أهوال لم يعترف على زميله بشئ وبعد أن قضى ثلاثة أعوام في السجن خرج يبحث عن زميله الذي انقطع عن زيارته طيلة هذه المدة وبعد طوال السؤال عنه عرف أنه تاب وأقلع عن السرقة وقطع علاقاته باللصوص وأنه يعمل حالياً تاجر ملابس ويمتلك محلاً كبيراً بمدينة نصر فذهب عبده كاكا إليه وبعد تهرب زميله منه مرات كثيرة استطاع مقابلته أخيراً ولكنه تنكر له وتنصل من الأمر وهدده بإبلاغ الشرطة إذا حاول لقاءه مرة أخرى فذهب عبده يشكوه إلى "المعلم" شيخ المنسر الذي كان يتحدث عنه بإعجاب ويصفه بأنه رغم كبر سنه لكن كان مهيباً يرهبه كل لصوص المدينة ويحتكم إليه كل اللصوص إذا اختلفوا ويطلب مشورته المستجدون في "الكار" بل تستعين به الشرطة أحياناً في القضايا الكبرى وجرائم الرأى العام ويتردد عليه الضحايا ممن تعرضوا لسرقة متعلقات شديدة الأهمية لطلب مساعدته في رد ممتلكاتهم مقابل "الحلاوة" ويروي عبده كاكا أنه حينما ذهب يشكو إليه زميله وبعد أن تأكد شيخ المنسر من صدق روايته بوسائله الخاصة وبواسطة أعوانه أرسل إلى زميله يطلب حضوره على وجه السرعة وبالفعل حضر الرجل وبعد مناقشات ومداولات استغرقت عدة أيام أصدر حكمه بأن لعبده الحق في ثلث قيمة المحل وما به من بضائع باعتبار أن زميله يستحق الثلثين لأنه تمكن من الحفاظ على المجوهرات وبيعها واستثمار ثمنها في مشروع تجاري كبده الجهد والوقت والمخاطرة وحقق به المكاسب فيما يمكن وصفه بالاصطلاح العصري "غسيل الأموال" وأنه لهذا لم يحكم بالمناصفة وحكم بقيمة الثلث لصالح عبده وحينما حاول الرجل التهرب من تنفيذ "قرار" شيخ المنسر هدده بأنه في هذه الحالة سيقوم رجاله بإحراق المحل والبضائع ودفع ثلث ثمنها صاغراً لعبده الذى منح "المعلم" ما أطلق عليه "بحق المقعد" وهو أجره عن التحكيم والضيافة والالتزام بتنفيذ الحكم .... إلخ.
ويتحدث عبده بحسرة عن تلك الأيام الخوالي التي كان اللصوص يعرفون فيها "الأصول" وكان لهم كبير ويتحدث بمرارة عن هذا الزمن "الأسود" الذي أصبح اللص فيه يسرق شقة جاره ويعتدي على النساء بالمطاوي ويؤكد أن الحرامي زمان كانت له منطقة لا يحق له تجاوزها لمناطق حرامية آخرين وإذا حدث واعتدى أحدهم على منطقة زميله فيتحتم عليه رد ما استولى عليه من المسروقات لزميله "صاحب المنطقة" ولهذا الأخير الحق في رد المسروقات للضحية إذا كان يعرفها أو الاحتفاظ به وفقاً لتقديره الشخصي وتبعاً لظروف الحادث.
ويواصل عبده كاكا حسرته على تلك الأيام "الحلوة" التي لم يكن ليجرؤ فيها حرامي على الإرشاد عن زملائه الآخرين مهما تعرض من ضرب أو تعذيب وأن أقصى ما كان مسموحاً له به أن يعترف على نفسه فقط وحتى في هذه الحالة كان ينظر إليه باحتقار ويعامل داخل السجن بإزدراء ويكلف بأعمال "نوبتجي السجن" الذي يحمل فضلات الطعام والدلو المستخدم في التبول والبراز لينظفه كل يوم باعتبار أنه مازال بحاجة إلى مزيد من التدريب والصلابة ويجب عليه الطاعة والصبر على أحقر المهام حتى يصبح "رجلاً" حينما يعود للشارع وقانونه غير المكتوب.

وصية الخياط
ويقودنا الحديث عن "أعراف اللصوص" وتقاليدهم إلى وصية "عثمان الخياط" التي تحدثنا عنها من قبل بوصفها الدستور المهني والأخلاقي الأول للصوص إذ يقول فيها موصياً تلاميذه ومريديه : "جسروا صبيانكم على الشدائد وعلموهم الصبر على الأهوال واحضروهم ضرب الفتيان أصحاب تصوير الجرائم، لئلا يجزعوا إذا ابتلوا بذلك وحدثوهم بمناقب الرجال وحال أهل السجون وإياكم والخمر فإنها تورث الثقل وتثبط الهمم ودعوا النوم ولا سيما بالليل".
وهو بهذه التصالح إنما يضع قواعد هامة في التدريب بمفهومه الحديث والمعاصر الذي يربط بين المفاهيم النظرية والخبرات الميدانية بل لعله تجاوز عصره بقرون، حينما تحدث عن "أصحاب تصوير الجرائم" الذي بات يُعبر عنه الآن في أحدث طرق التدريب "باصطناع الأحداث" حيث تقوم المؤسسات الأمنية الحديثة بتدريب رجالها على مواقف مشابهة ومطابقة لما يمكن أن يقابلوه في مسرح العمليات وفقاً لدراسة كافة الاحتمالات المتوقعة من مخاطر كوعورة المكان وقلة الطعام واتقان الخصوم لمهامهم المعادية .
وكان ضرورياً حتى تكتمل الصورة لدى القارئ أن نتحدث مع رجل يقف على الجانب الآخر من حياة هذه الطوائف لكن علاقته بهم ظلت قائمة وحية على مدار ما يزيد عن ثلاثين عاماً اكتسب خلالها خبرة عريضة بكل تفصيلات ذلك العالم السري وقوانينه الموازية للمجتمع أحياناً والمصطدمة به كثيراً، أنه لواء شرطة متقاعد له باع طويل في هذا الشأن ويؤكد في البداية أن اللصوص جزء من المجتمع، أي مجتمع، وتاريخهم جزء من تاريخ الوطن، أي وطن، وأن الجريمة مرتبطة بكل ما يطرأ على المجتمع من تغيرات وتحولات ويجب ألا نتعامل مع دراسة هذه الظواهر باستعلاء واستهانة، فمن الملاحظ أن الباحثين والمؤرخين المعاصرين تجاهلوا الأمر تماماً على النقيض من الأسلاف الذين أفردوا كتباً قيمة كانت بمثابة الضوء المبهر الذي سلط على العصر الذي عاشوا فيه فكشف لنا أدق التفصيلات عن طبيعة العصر والدلالات السياسية والاجتماعية التي أفرزت تلك الطوائف وتفاعلت معها.

الجعيدية والفداوية
ويرى محدثنا أن كتابات المقريزي والجبرتي وابن اياس تمثل تأصيلاً تاريخياً لجذور كافة طوائف لصوص هذا العصر إذ توجد بينها فكرة القصاص من الهيئة الاجتماعية والنظام الذي أمعن في قهرهم فاضطروا للتعامل معه بأدواته غير المشروعة كالسلب واللصوصية والاحتيال وحين سألته عما إذا كانت هنالك بقايا لطوائف اللصوص التي تحدث عنها المؤرخون كالشطار والمناسر والعياق والحرافيش والجعيدية والفداوية قال: بالطبع مازالت هذه الطوائف تحيا بيننا حتى اليوم ولكن بمسميات أخرى عصرية فكما تغيرت مسميات كل شئ بدءاً بالمناصب السياسية والإدارية كان من الطبيعي أن تختلف مسميات طوائف اللصوص وفقاً لمجريات العصر، فالشطار القدامى هم أسلاف المحتالين والنصابين المعاصرين والمناسر هى الأصل التاريخي للتشكيلات العصابية والعياق هم القوادون وبلطجية الملاهي الليلية حالياً أما الحرافيش فهم أقرب إلى العامة المتحفذين الذين يقفون في المنطقة الفاصلة بين الاستقامة والجريمة، وهم مهيئون لارتكاب حوادث الشغب والتجمهر إذا تعرضوا للإثارة وجمعتهم قيادة منظمة أصبحوا مؤهلين للقيام ما بالثورات الشعبية والانتفاضات.


وماذا عن الجعيدية والفداوية؟
الجعيدية والفداوية اسمان لطائفة واحدة هى تلك العصابات التي تخطف الأطفال أو الممتلكات ليس بغرض الاستيلاء عليها بل مساومة صاحبها في دفع فدية حتى يردوا إليه ما اختطفوه وهو ما يعرف بـ "الحلوان" ورغم تقلص نشاط هذه العصابات إلا أنها لاتزال باقية حتى اليوم.
ماذا عن المتغيرات التي طرأت على طوائف اللصوص المعاصرين؟
لقد تغيرت الجريمة كثيراً في مصر شأنها في ذلك شأن أشياء كثيرة وبالتالي اختلفت ملامح وأساليب اللصوص فمثلاً هناك جرائم انقرضت تماماً كسرقة أحبال الغسيل التفاهة مردودها الاقتصادي واستحالة التصرف في الملابس المستعملة وقد كانت هذه الجريمة منتشرة في الستينيات مثلاً وتقلصت جرائم أخرى كجرائمم فرض السطوة والإتاوات بينما استحدثت جرائم جديدة كتلك المتعلقة بالمال العام أو النصب على البنوك والشركات وغيرها.

البصمة النفسية
سألت لواء الشرطة السابق عن تقييمه لنموذج اللص من طراز "عبده كاكا"، فأجاب :
ـ أنا أعرف عبده كاكا منذ ربع قرن تقريباً وقد أصبح هذا النموذج تراثاً، لم يعد قابلاً للتداول الآن في أوساط اللصوص، أو حتى لدى رجال الشرطة، وقد عاصرت هذه النماذج في أوج مجدهم والحقيقة أن العمل معهم كان أمراً سهلاً وسوف أسرد حكاية لها مغزاها في هذا السياق حين كنت ضابطاً صغيراً أتدرب تحت إشراف ضابط كبير برتبة عقيد، له خبرة واسعة لكافة لصوص القاهرة وقد ذهبت معه مرة لمعاينة إحدى الشقق المسروقة وبعد عملية فحص لم تستغرق أكثر من نصف ساعة أمرني بالتوجه لإلقاء القبض على شخص حدد لي اسمه وأوصافه والمكان الذي سأجده فيه بأحد البارات بعماد الدين فتوجهت بالفعل هناك ووجدت ذلك الشخص واصطحبته إلى قسم الشرطة وما أن نظر إليه القائمقام حتى إنهار واعترف تفصيلياً عن جريمته وأرشد عن المسروقات وقد بدا لي الضابط حينئذ كما لو كان ساحراً أو منجماً، وسألته كيف استطاع تحديد شخصية الجاني بهذه الدقة والسرعة، فأجابني بأن الأمر مجرد عملية منطقية بسيطة فاللصوص الذين يسرقون في هذا الحي خمسة فقط منهم اثنان محبوسان وقد كشفت لي المعاينة أن اللص تناول طعاماً داخل المطبخ أثناء قيامه بالسرقة وهو ما يعرف بالبصمة النفسية للجاني ولا يفعل هذا إلا ذلك اللص الذي يذهب إلى البار بعد ارتكابه للجريمة .
أخيراً سألته عما إذا كان الواقع الحالي قد تغي كثيراً عن ذي قبل، فأجاب :
بالطبع تغير، فقد دخلت عالم اللصوص فئات كانت أبعد ما تكون عن التورط كالطلبة والموظفين والحرفيين وهذا نتيجد لإدمانهم على المخدرات أو اعتيادهم على معدلات إنفاق عالية فضلاً عن تفشي القيم الاستهلاكية في المجتمع وبدخول هذه الفئات عالم الجريمة أصبح الأمر أكثر تعقيداً لرجل الشرطة لعدم توافر معلومات سابقة عن الجناة ويظل الأمر لغزاً حتى يقع اللص متلبساً بجريمته ونتيجة للتضخم العمراني والسكاني وانتشار العشوائيات تزايدت أعداد اللصوص بالإضافة لتغير الإعراف التي كانت تحكم عصابات الماضي فلم تعد هناك مناطق للصوص وصارت الساحة مشاعاً للجميع.
انتهى الحوار مع اللواء السابق الذي طلب عدم ذكر اسمه لاعتبارات تخصه ونقدرها، لكن الموضوع لازال يحتمل الكثير من الحكايات والتفاصيل، ويتطلب المزيد من الجهد والوقت، وحتى إشعار آخر نرجو أن يتسع لنا صدر القارئ ووقته لاحتمال المزيد ..
وإيه كمان ؟ .. آه .. ما اعطلكش!


Nabil@elaph.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف