رثاءات لما يسمّى القاهرة!!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
شذرات عن مدينة تقطب حاجبيها وتغتصب الابتسامة
سلطان السعد القحطاني
(1)
إذا كنت سعوديا ًولم يسبق لك أن زرت، قاهرة مصر، ومراكش المغرب، فهنالك شك كبير يحوم حول مدى
ولذلك قررت، قبل أيام معدودة، أن أكمل النصف الآخر من سعوديتي من خلال القيام بزيارة إلى القاهرة أتت على عجل، وذلك قبل أن يلهو بنا الزمان لنجد أنفسنا قد وصلنا إلى العتبات الأخيرة من العمر دون أن نرى ما يستحق أن يُرى من هذا العالم الرحب.
وزائر قاهرة المعز هذه الأيام يلحظ إلى أي حد غدت هذه المدينة تعيسة ومصابة باليتم، بعد أن كانت إحدى العواصم المهمة في العالم العربي قبل سنين خلت.
ولعل المشهد الأبرز هنا هو حالة الإحباط التي تخيمّ على المدنية وساكنيها : من سائقي التاكسي إلى أعضاء البرلمان، والجماعات الحزبية، التي سوف تصاب بالشلل عما قريب، نتيجة عمليات الاستمناء المتواصلة للدستور وشرعيته من قبل النظام الحاكم.
(2)
على هذه الأرض الخصبة ينسدل النيلُ مطوقاً قاهرة المعز بحنان لا نظير له. كتفٌ من الماء يحيط بها حتى غدا الماء رملاً، والرمل ماءً، في نسيج أسطوري لا شبيه له على الإطلاق. السحائب الغافية في السماء تبدل مقاعدها في الدرجة الأولى من طائرة الحلم بغية الإطلال على المدينة بشكل أكثر قرباً.
(3)
من سرَق القاهرةَ البيضاء
ومن أغمض عينيها
من أخفى ملامح زينتها.. ؟
من أحضر كل الحُجب السوداءِ
وسرق من الثوراتِ مدينتها.
(4)
وما الذي يملكه الغريب سوى الأسئلة ؟
لماذا انحسرت القاهرة ثقافياً وتحولت من مركز يرسل الضوء إلى عواصم الجوار، إلى مدينة منكفئة ًعلى نفسها تعتقد أن الكون كله يدور في أزقة "خان الخليلي" أو في الأرصفة المحيطة بالجامعة الأميركية..
ما هي الفائدة من هذا الاستمناء السياسي المتواصل بحق الدستور وتفصيل مقاساته على جسد السُلطة، وكيف تحولت السُلطات الثلاث بقدرة قادر إلى سلطة واحدة لا شريك لها ؟. لماذا تصمت القاهرة عن كل هذا العذاب وكأن على رأسها الطير، أو مزاريب الوحشة، وهراوات القدر.
مدينة خرجت من ثقب الزمن،
ومع الوقت تتحول القاهرة إلى أسفنجه لهذا القدر المر، الذي تشرب من كأسه عشرين عاماً أو ما يزيد، دون أن تصاب بالسُكر.
(5)
هذه هي العاصمة الكبرى وقد أصبحت رهينة التاريخ، مصابة بعقدة الحنين إلى الأمس الذي لن يعود، يوم كان صوت سقوط ملعقة على رخامةِ في أقصى ركنٍ من القاهرة، يُسمع صداه في أرجاء الدول العربية كلها، ويوم كان النشيد الذي يصدح في تظاهرات قاهرة "ناصر 56"، يتحول بقدرة قادر، إلى أهزوجة نصر تغنى على أنقاض العروش المتساقطة واحدة إثر الأخرى فداء للأمة العربية الواحدة.
أما الآن فتجلسُ القاهرة مثل امرأة فاتنة ختم على قلبها القَهر فأصبحت تعمد إلى تشويه جسدها، كل ما تسنى لها ذلك، دون أن يرف لها جفن أو هرم، وهي في ظل هذه الضغوط المدهشة لم تعد تملك القدرة على الانتحار... فلو كانت تملك الخيار لفعلت.
وتنظرُ إلى النيل فيغالبك الحنين اللعين.
وتنظر إلى الفاتنات اللواتي يبتسمن للنهر، فتشعر كم أنت وحيدٌ دون النيل.
وترى القاهرة في الليل، فتقول لنفسك وأنت تحاورها " يالك من مدينة لعوب تجيد السهر".
(6)
... وقاهرة المعز لدين الله الفاطمي لا تنام، لا تنام.. فما إن ينتهي ليلٌ حتى تبدأ ليال أخرى.
يقول لي سائق التاكسي وهو يغالب اكتئابه للحفاظ على صورة المدينة أمام الغرباء "إننا نصحو على مدار اليوم". ويقول لك آخر وهو يغوص في بئر عميقة من الحزن " كل ظلم العالم موجودٌ هنا".
(7)
تثائب أيها النهرُ المقدّس
هب لنا صورنا.. ووجوهنا التي التقطتها
أعطنا أغاني الحب والحنان، وآهات "الست"، وبلهارسيا " العندليب"، وحنجرة منهكة مثل حنجرة "محمد عبد الوهاب"، علنا نستطيع العودة إلى التواريخ القديمة.
(7 - مرة أخرى)
ماذا تريدُ أيها النهر؟
أحمل قبعتك تحت أبطك الأيمن
وأسحب حقائبك الضخمة تباعاً
نحو مكانٍ تَرى فيه ولا تُرى
حتى تستطيع التغلب على كل عقدك النفسية.
(8)
تهبط ُعلى سلالم صباح مصر، مع صوت عندليبها الذي يعتبر نفسه موعوداً بجراحها (المصطفى للحزن كان ولم يزل) وتشعرُ أن الدنيا لم تعد بخير، لأن هذه العاصمة التي كانت رأس حربة العالم العربي تحولت بفعل عوامل التعرية السياسية إلى الصفوف الخلفية، وتشعر بالامتنان للجميع إذا ما تركت لحال سبيلها..
شاخت القاهرة ولم تعد تحب الاستماع إلى أحد. وأصبحت تفضل إخراس الأصوات العالية لأن أذنيها أصيبتا بالشيخوخة المبكرة.. لكنها مع ذلك تبتسم ابتسامة مخادعة، ابتسامة محكوم بالإعدام يساق إلى الحبل ذات صباح رائق.
(9)
جرّب أن ترثي،
ففي الأرض متسعٌ للرثاءْ
وخيط جراحك يمتداً حزناً
من النهر حتى عنان السماءْ
(10)
وأعود إلى مصر كأني
ملاكٌ جديد ْ
خلفي غلالٌ من القمحِ
وحول عصاي العبيد ْ
(11)
وتقلب بصرك ذات اليمين وذات الشمال بحثاً عن أيقونات الأزمنة القاهرية الجميلة. عن المتنبي الذي جاء بخيله ورجله مكلوماً من الدهر والحبر، وطه حسين الذي رمى رمحه المخملية في رؤوس أصنام الشعر الجاهلي، ونجيب محفوظ الذي حاكَم فرعون مصر وناصريتها المستحدثة، وتوفيق الحكيم المفجر اللوجستي لثورة يوليو، وآهات الست التي كانت سلوة العاشقين وخبز الصبر،... الخ.. الخ.
ورغم البحث والتقصي فلا تجد سوى أصداء مكتومة لا تكاد تسمع. أصداء تقول بأن القاهرة مشغولة بالركض خلف الخبز، والمال، والأحلام المستحيلة، أما ما قد فات، من الشعر والموسيقى، وكلمات العشاق على ضفاف النيل الجميل، فقد فات.
(12)
........
......
(13)
الفاتحة.
التحقيق منشور في ايلاف دجتال يوم الاحد 15 نيسان 2007