فوضى الفتاوى من إرضاع الكبير إلى بول الأنبياء
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
تعاظم دور الفتوى مهد الطريق أمام الهوس الديني
فوضى الفتاوى من إرضاع الكبير إلى بول الانبياء
تحقيق يكتبه ـ نبيل شـرف الدين: كما يحدث عادة بعد وقوع الكارثة ـ أو لنقل سلسلة كوارث ـ أصدر الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر قرارا بوقف د. عزت عطية عن العمل وتحويله للتحقيق، بسبب الفتوى الاستفزازية المسماة "إرضاع الكبير"، والتي أطلقها عبر الصحف ومحطات التلفزيون المصرية وأفتى فيها بإرضاع المرأة زميلها في العمل، حتى تصبح أمه في الرضاعة، وبالتالي يجوز "الخلوة الشرعية" بينهما، إذا اقتضت ظروف العمل ذلك .
لم يتوقف مفتي الإرضاع عند هذا الحد، بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك ، إذ طالب بتوثيق الإرضاع عبر عقد يسمى "عقد توثيق الإرضاع"، وينص فيه على أن "فلانة أرضعت فلانا ونشهد الله على ذلك"، ثم يوقع الشهود على ذلك .
أما ما فعلته دار الإفتاء المصرية في سياق ردها على "فتوى البول" أنها أصدرت بياناً أكدت فيه أن طهارة رسول الله (ص) في الظاهر والباطن هي محل إجماع بين الأمة، مشيرة إلى أن البعض يرى أن هذه الطهارة لجميع الأنبياء .
ورأى بيان دار الإفتاء أن نشر تلك المسائل في الصحف السيارة ـ أمر غير سديد ـ حتى مع صحة تلك المسائل في حد ذاتها، مشيرا إلى أن دار الإفتاء رفعت كل ما يثار حول هذه المسائل إلى مجمع البحوث الإسلامية لبيان ذلك الأمر .
الإفتاء والسياسة
ومع تفاقم فوضى الفتاوى في مصر خاصة في ظل انتشار الفضائيات الدينية التي تعتمد على ترويج الغريب والمثير من الآراء الفقهية، دخل علماء الأزهر حلبة سباق الفتاوى في مصر، الذي لم يعد ممكناً سوى الإقرار بتعاظمه على نحو يبعث على التساؤل عن الوجهة التي تدفعنا إليها "مؤسسة شؤون القداسة"، وكذا عن المدى الذي يمكن أن نصل إليه في هذا الدهليز الذي يمسك بمفاتيحه "وكلاء حصريون"
وفي مطلع هذا العام أصدر مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر قراراً يقضي بقصر الفتوى على دار الإفتاء، واحتفاظ المجمع بحق التعقيب عليها، باعتباره المرجعية العليا بحكم القانون، ما أثار جدلا شديدا في أوساط دينية في البلاد، وأعلنت رفضها للقرار، واعتبرته في غير مصلحة المؤسسة الرسمية.
وقال معارضون لقرار مجمع البحوث الإسلامية في مصر إن ما يحدث في الفضائيات من بعض الدعاة ليس فتاوى، مشيرين إلى أن هؤلاء يقومون فقط بنقل الفتوى من علماء السلف إلى جمهور المسلمين، واعتبر معارضون للقرار أن الهدف منه هو "تكميم الأفواه والحد من الحرية التي كفلها الإسلام للجميع"، على حد تعبيرهم .
ولا شك أنه مع تنامي الدور الذي بدأت الحركات الأصولية تلعبه في العالم الإسلامي، برز دور الإفتاء خلال الأعوام الماضية كمؤسسة مهمة تمارس عمليات ربط يومية بين الشريعة والدين من جانب، والظواهر المجتمعية والسياسية من جانب آخر، وفي دراسة غير منشورة لنيل الدكتوراه قدمت لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، بحثت إشكالية التفاعل بين الإفتاء من جانب، والظاهرة السياسية من جانب آخر، حيث طرح الباحث عبد العزيز شادي في دراسته جملة من الأسئلة المنهجية المهمة مثل: ما هي الخصوصية الحضارية لمفهوم الإفتاء?، وهل هناك مناهج تراعي هذه الخصوصية الحضارية في دراسة تفاعلات الإفتاء مع الظواهر السياسية?، وما هي جذور عملية الإفتاء في مصر، وما هي وظائف تلك العملية? وهل يمكننا القول بوجود تفاعل بين الفتوى من جهة والأبعاد الثلاثة للتنمية وهي السياسية (المشاركة والشرعية)، والاقتصادية (حفظ المال) والاجتماعية (حفظ النسل) من جانب آخر? .
حق الفتوى
وهذا يقودنا إلى معركة مكتومة ـ قيل وقتها إنها كانت في سياق صراع بين المفتي الأسبق وشيخ الأزهر ـ حول الجهة المعنية بالتصدي للفتوى في مصر، وما إذا كان القول الفصل في هذا المضمار لدار الإفتاء، أم للأزهر، وهنا يقطع مفتي مصر الأسبق الدكتور نصر فريد واصل بأن "دار الإفتاء هي الجهة المنوط بها إصدار الفتاوى بحكم وظيفتها"، بل ويطالب بحسم تحديد المرجعية المعتمدة لدى نشوب أي خلاف في القضايا الفقهية، وحتى يلتزم الناس بما تتوصل إليه من فتاوى ولا يقعون فريسة الفتاوى المتضاربة، ليخلص في النهاية إلى القول إن دار الإفتاء هي الجهة المختصة بنظر اختلاف الفتاوى بين الفقهاء، لما لها من ولاية شرعية في ذلك وللحفاظ على وحدة المسلمين".
لكن شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي كان له رأي آخر في هذه الإشكالية، إذ أكد أن الفتاوى التي تصدر عن الأزهر تخرج عن مجمع البحوث الإسلامية، وأن المفتي عضو في هذا المجمع، مؤكداً أن "الفتوى لا تصدر إلا بعد دراسة وافية للقضية وعرضها على مجلس المجمع، وما يقره المجمع يتم الالتزام به من جانب مختلف الأطراف".
وهنا تجدر الإشارة إلى أن دار الإفتاء المصرية تأسست في تسعينات القرن التاسع عشر، وكان الشيخ محمد العباسي المهدي أول من تولى إفتاء مصر، ثم جاء بعده حسونة النواوي فمحمد عبده الذي بقي في الإفتاء حتى وفاته عام 1905 ثم محمد بخيت المطيعي .
وعودة إلى الدراسة التي أشرنا إليها، والتي تعرف الإفتاء بأنه يحمل في جوهره الحكم أو الرأي الشرعي في مسألة ما على سبيل الاستشارة وليس الإلزام، وغالبا ما تسبق بسؤال يكون موضع اهتمام شخص أو جهة أو مؤسسة ما، وتختلف الفتوى في ذلك عن دور مؤسسات أخرى مثل القضاء وذلك في عدة أمور أهمها طبيعتها الاستشارية، وعدم إلزامها كعنوان للحقيقة .
وفي الجانب الآخر من هذه الإشكالية، يأتي رأي الدكتور محمد رأفت عثمان، عميد كلية الشريعة والقانون في جامعة الأزهر، في معرض تعريفه للفتوى بأنها "إبداء حكم شرعي في مسألة من المسائل أو قضية من القضايا"، لافتاً إلى أن "هذه ليست مهمة هينة يتصدى لها أي إنسان، بل هي شأن دقيق يقتضي التأهل بالاتصاف بدرجة علمية رفيعة، وحتى ذلك أيضاً لا يعني أيضاً أن كل دارس لأحكام الشريعة يصبح بالضرورة من العلماء المؤهلين للفتوى في المسائل الشرعية".
ويذهب الدكتور صبري عبد الرؤوف أستاذ الفقه المقارن في جامعة الأزهر، إلى ما هو أبعد من ذلك الرأي أيضاً، إذ يقطع بلغة واضحة أن "الفتوى من غير المتخصصين باطلة ولا يعتد بها"، وذلك "لقطع الطريق على الدخلاء"، ويمضي قائلاً إن "الفتوى من غير المتخصصين لا يعتد بها لأنها شأن أي علم له أصوله وقواعده، ولا يستطيع الإفتاء إلا من كان عالماً بقواعده، ومنها أن يجتمع فيه العلم بكتاب الله وسنة رسوله، والناسخ والمنسوخ، وأن يكون عالماً بالحديث دراية ورواية، ملماً بقواعد اللغة العربية وأساليبها" في إشارة إلى أن هذه أبرز الشروط ـ القاسية ـ التي اتفق بشأنها العلماء والفقهاء على مدى قرون.
الإفتاء المدني
ويسعى الباحث عبد العزيز شادي في دراسته التي أشرنا إليها، إلى محاولة رفع الالتباس الحاصل بين السياسة والإفتاء، إذ يطرح ما يطلق عليه "مفهوم الإفتاء المدني"، معتبراً أن ظاهرة شيوع الإفتاء عمق دائرة التفاعل بين الفتوى الرسمية من جانب والتفاعلات الاجتماعية من جانب آخر، فأصبح الإفتاء المدني يمثل ضمير المجتمع المدني، وإحدى صور رقابته على الدولة بمؤسساتها المختلفة، كما يمارس المجتمع بفئاته الاجتماعية وظيفة مهمة في ضبط عقيدة الدولة، وفقاً لتصور الباحث لجدل العلاقة بينهما .
ثم يخلص الباحث في هذا السياق إلى نتيجة مؤداها أن الإفتاء الرسمي أصبح قائداً للعديد من سياسات الدولة، ويضرب مثلاً بما جرى في مؤتمري الإسكان والمرأة، حيث يقرر الباحث هنا أن "سياسة الدولة الرسمية باتت قائمة على أساس الفتاوى"، لكنه يستدرك موضحاً أنه "عندما يتعلق الأمر بالسياسات الاستراتيجية العليا كالاقتصاد والسياسة الخارجية يقتصر دور الإفتاء على تبرير السياسات، وليس صناعتها أو حتى المشاركة فيها"، باعتبار أن هذه "مناطق محظورة" لا تحتمل اجتهادات الهواة في غير مضمارهم، حتى لو كانوا من المتخصصين في العلوم الشرعية، باعتبار أن صناع القرار هنا عند هذه المنطقة تحديداً يدركون جيداً أن التقديرات الصحيحة فيها لا يمكن التماسها لدى غير خبراء السياسة والاستراتيجية والاقتصاد والشؤون الاستراتيجية.
وهنا تثور مسألتان، الأولى تتعلق بما أطلق عليه الباحث "الإفتاء المدني"، والثانية تجسد مستوى وحجم التفاعل الذي يتصوره الباحث إيجابياً بين "آلة الفتوى" واحتياجات المجتمع ممثلة في المصالح المرسلة، خاصة تلك التي اقتضتها تطورات العصر.
كما تجدر الإشارة هنا إلى أن الفتوى لا تُعد ملزمة في الاسلام السني، والأزهر والمفتي في مصر لا يتدخلان عادة بإبداء الرأي الا عندما يُسألون. لكن لا شيء يمنع المفتي أو شيخ الأزهر من إصدار بيان في شأن عام داخل مصر او خارجها إذا أرادا، ولا تخرج الهيئتان عادة عما تريده الدولة، لكن من المعروف ان شيخ الأزهر السابق جاد الحق علي جاد الحق خالف توجه الدولة منتصف التسعينات في شؤون تتعلق بالبنوك، فما تزال قضايا الربا والتأمين وبعض العقود التجارية والبحوث المعاصرة حول الجينات وتأثيراتها على الحياة البشرية، كل ذلك، ما يزال مجال أخذ وردّ حتى يومنا هذا.
التحقيق منشور في ايلاف دجتال يوم الثلاثاء23 مايو 2007