إيلاف+

تداعيات، في طريق الى معبر ربيعة 1-2

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

خالد السلطاني: يحس المرء الزائر الى اربيل بنبض لواقع مختلف عن مناطق العراق الاخرى، هو في الواقع نبض العراق المستقبلي، النبض الذي يكرس توق الناس للتحرر من ربقة ارث الحكم الشمولي الظلامي، رغم ما تواجهه المدينة من عثرات وصعاب، يبدو بعضها ذاتيا، و الاخر " مستوردا " من بعيد، يعيق تقدم المدينة ويعمل على ارباك النهضة العمرانية، التى اشاهد نماذج ممتعة لها بعين مهنية: عين المعمار.

.. في اربيل، وانا المعني كثيرا في عمارة العراق الحديثة والمعاصرة، تقصيت عن مبان ٍ سبق وان صممتها مديرية المباني العامة - المديرية ذات الاهمية القصوى في تحديد وترسيخ بانوراما العراق المعماري، منذ ان انشاءها في العشرينات غب ولادة الدولة الحديثة. ومن ضمن المباني التى يمكن للمرء ان يتذكرها مقرات نقابات العمال والاتحادات المهنية، التي صممها المعمار " معاذ الالوسي " ( 1938 ) عندما كان يعمل في ( المباني ) لتكون نموذجا يعمم على غالبية محافظات العراق بغض النظر عن اختلاف المواد وتنوع التضاريس الموقعية. انه نموذج لمجمع اتحادات مهنية، معالجة واجهاته تعكس نزوع المعماريين العراقيين وقتذاك الى تثبيت العناصر المحلية الشائعة، كجزء من مقاربة معمارية هي في الواقع صدى تأثيرات الاتجاه الاقليمي الذي ساد في الستينات بالمشهد المعماري العالمي. لاتزال لغة المبنى " الاربيلي " محتفظة بنكهتها التجديدية رغم قدم المبنى ورغم التحويرات الى طرأت عليه جراء تغييرشاغليه، وغياب تام لمفهوم الصيانة عندنا. انه يذكرنا بتلك الفترة التى اظهر فيها المصممون العراقيون اهتماما عميقا ومتفرداً، قياسا بما كان يمارس تصميميا في المنطقة، لجهة تجديد عناصر الموروث البنائي المحلي ومسعاهم في تأويله وفق تأثيرات مجرى العمارة العالمية واستحقاقاتها. بيد ان ذلك النزوع المؤثر سرعان ما انطوت صفحته الابداعية عندما شرع النظام الشمولي بالاستحواذ والسيطرة على جميع منابع المنتج الابداع بضمنها العمارة، وتوقفت تلك الحركة الواعدة بعد حملة جائرة لعرقلة نشاط المكاتب الاستشارية العاملة بالبلاد ووضعها مع منتسبيها تحت رقابة امنية صارمة، ثم آلت تلك الاجراءات فيما بعد الى غلق معظمها، وبالتالي خسر العراق خبرة غنية في هذا الشأن، خبرة اهلته لان يكون يوما ما رائدا بالمنطقة في مجال تأسيس وظهور بيوتات الاستشارة المعمارية والتخطيطية.

ايقظني صديقي " جرجيس البنا"، الذي استضافني في شقته باكرا، وتوجهنا معا الى مقر شركة النقل، ومن هناك استقليت " جي. ام. سي " حديثة مع سائق محلي مرح يتقن فيما يبدو عمله ويعرف خفايا طرق الرحلة وكيفية التعامل مع الحواجز او ما يعرف بـ " السيطرات " التى ستعترض طريقنا، وسيخرج سائقنا منها بسلام في اجابات قصيرة وسريعة عن الركاب ووجهتهم.

ونظام " السيطرات " على الطرق بدأها النظام الديكتاتوري البائد، وتكرست كمنظومة فائقة الدقة في ضبطها وادائها عبرعقود من السنين. لقد كانت مواقع السيطرات مبثوثة في جميع انحاء البلاد. لم يسلم احد منها. وفي وقت عندما كانت البلاد تمر في اوقات عصيبة ومتوترة، ظل نظام السيطرات يعمل بصورة كفوءة وبانتظام عاليين، بسبب ما كان يدره ذلك النظام من فوائد ومكاسب شخصية للعاملين فيه، ناهيك عن امكانية اظهار تبجح سلطوي بلا حدود واشهاره في وجه الجميع بلا استثناء والاتكاء دوما على حجة ملاحقة اعداء الثورة والحزب!!. وكثيرا ما نسمع الان، عن وجود سيطرات " وهمية " ينصبها الارهابيون غايتها ترويع الناس وسلب ممتلكاتهم وفي احيان كثيرة قتلهم. كان طريقنا المختار يمر بالتفاف حول بحيرة سد الموصل، مبتعدين عن مدينة الموصل ذاتها التى تعتبر الان منطقة " ساخنة "، ومتوجهين نحو الحدود السورية. وقيل لنا ان اتباع مثل هذا الطريق رغم طوله نوعا ما فهو بالتالي امين، لا تطاله يد الارهاب المستشري على التخوم. ولم يكن ثمة اعتراض على طول الطريق، طالما نحصل على الامان.

نحن الان في وسط البادية بعيدا عن حدود اقليم كوردستان، وسيارتنا تقطع بسرعة فائقة الطريق شبه الخالي. على جانب الطريق تلوح بعيدا في العمق مجمع مبان ٍ حديثة بيضاء اللون، يومئ " سلويت " عمارتها، كما عناصر تفاصيلها التى تُرى من بعيد الى نوعية النمط المعماري الشائع ايام الطاغية ؛ المقياس الضخم نفسه والعناصر التزيينية اياها، ما يجعل من كتلة المباني البعيدة مجمعا شبيها " بنمط " المجمعات الرئاسية السابقة.


- انها قصور آل ربيعة.
ذكر السائق هذه المعلومة بصوت عال، بعد ان لاحظ اهتمامي البصري بالمباني التى ظهرت فجأة على سطح الصحراء. انها، اذن، قصور آل ربيعة: شيوخ البادية واغنيائها المتنفذين. كيف يمكن لمثل هذه العمارة ان " تعمل " وهي بمثل تلك البيئة؟ فمجمعات " القصور الرئاسية " اجتهد مصمموها لتكون عمارتها جزءا من المشهد المديني، رغم " عزلتها " عن سياق البيئة المبنية المجاورة ؛ لكنها تظل " مدينية " اساسا ً، واستنساخ عناصرها ونقل فورماتها وكتلها الى البادية، هو تجريد غارق في اميته لجهة عدم تلمس الفرق او العلاقة بين المبنى وخصوصية محيطه. لكن الناس تلجأ الى استخدام مثل هذا التماثل الهيئاتي اظهارا منهم لهوس " التماهي " مع كل مل يتعلق بالحاكم والسعي لتمثيل " اميج " السطوة التى تعبر عنها دلالات تلك العمارة. بالطبع ان نموذج تلك الممارسة التى تعبر عنها قصور البادية والتى اراها من بعيد، ليست هي النموذج الوحيد قطعا ؛ انها ممارسة شائعة، نراها حاضرة بقوة في كثير من بيئات الارياف العراقية المبنية. اذ تختفي وتزول الفروقات بين مبنى " الحاضرة " ومبنى " الريف "، وتتماثل الهيئات والمعالجات الكتلوية وتتشابه التفاصيل بغض النظر عن تباين المواقع والبيئات.
والامر الذي يبعث على الدهشة في هذا المجال " ولع " الاقصاءات المتعمدة الذي تمارسه شرائح عديدة من مجتمعاتنا لكل ما انجز سابقا والانغماس في " تغريبات " شاملة لتجارب بنائية ذكية اجريت في الماضي. ثمة قطيعة ابستمولوجية / معرفية تامة احس بها حاضرة بقوة في مثل هذا النوع من الممارسة البنائية. وليس ثمة حاجة هنا للتذكير بما يمتلكه منجز العمارة الاسلامية من ارث بنائي مرموق يخص معالجات تلك الاشكالية التصميمية ؛ اشكالية التفريق بين عمارة المدينة وعمارة الريف. بل ويذهب بعض المختصين بان ما تحقق في القرون الوسطى من تمايز في نوعية المنتج المعماري والنزوع لتكريس اهمية " المكان " في الحل التكويني كان بحد ذاته احد انجزات العمارة الاسلامية المرموقة. من هنا فقد عدت عمارة قصور البادية التى انتشر بنائها في بوادي الشام والعراق في العهدين الاموي والعباسي بمنزلة الامثلة الوحيدة الباقية لعمارة قصور العزب الريفية الخاصة التى تفصل فيلات " روما " القديمة والقصور الريفية التى عرفها عصر النهضة. انها العمارة التى يتميز معناها واهميتها وفرادتها بذلك الفصل الذي قد نجد اصوله في عمارة " الدارة/ الفيلا المدينية " Villa Urbana والعزب الريفية Villa Rustica التى ولع العرب المسلمون في ترسيخ نمطها وتحديد نوعية عمارتها.

ممارسة " خلط المفاهيم " بين امور كثيرة، من دون دراية تامة لدلالات تلك الممارسة، مثلما تقدمه مباني قصور آل ربيعة في صحراء الجزيرة، كنموذج واضح لتلك الممارسة، ليست هي الاولى في هذا الشأن، ولن تكون، كما يبدو، الاخيرة. ذلك لان " استراتيجيات " التأخر، التأخر الضارب مجتمعاتنا بعمق والمتعدد الجوانب، "تتيح " امكانية ان نبدأ التأسيس دائما من الصفر، في كل انعطافة من انعطافات سيرورتنا، لاغين ومتنكرين لانجزات سابقة ومتغاضين بتعمد عن ما توصل اليه الاخرون. فالقضية تكمن اساسا في التفكير، او في ثقافة اعادة التفكير لجهة تقصي وسائل بمقدورها ان تسهم في تحررنا من ربقة وتكبيلات الواقع المزري وافرازاته.

ثمة بيوت ريفية بعيدة او بالاحرى خيم بدوية تلوح لي من بعيد انظر اليها من نافذة السيارة المسرعة، انها تجمعات سكنية متفرقة ارتضى ساكنيها العيش مع بيئتهم وكيّفوا انفسهم وطرق حياتهم مع ظروفهم المحيطة، الظروف المستجدة التى جعلتهم " غرباء " عن ارضهم يعانون قطيعة مع ماضيهم، هم الذين يفاخرون دوما ً بالتمسك بالتقاليد، التقاليد التى يعتبرونها جزءا لا يتجزأ من اصالتهم. فهذه المنطقة شهدت تمازجا ثقافيا نادرا بين حضارات كثيرة، اريد لها ولسكانها ان تكون حدودا فاصلة بين ولاءات متنافرة، كما اريد لمدنها ان تكون حواجز او " سيطرات " دائمية، تفصل الساكنين فيما بينهم. لكنهم في الاخير تعاملوا مع واقع تلك " المدن / السيطرات " بشكل مختلف، وتشربوا بروح المرجعيات الثقافية المتعددة، وتعايشوا بتسامح قل نظيره ابان تلك الازمان، مع " فسيفساء " اثني وديني متنوع. ويشهد ظهورمدينة " الحضر " الواقعة في ذات البيئة نفسها التى تسير بها سيارتنا المسرعة الى ذلك التمازج الثقافي المتسامح الذي اُستبدل الان بتعصب اعمى وافد حديثا يحرص على تأجيج " ثقافة " عدم احتمال المختلف، ويسعى بوسائل فظة الى تغيبه والغائه، وحتى قتله ؛ اي تماما بالضد من " تقاليد " المنطقة وسجل تاريخها الماضي.

و " الحضر " تستدعي في ذاكرتي كثيراً من الاحداث، المعمارية منها على وجه الخصوص، هي التى يعود تاريخ تأسيسها عند مطلع القرن الاول الميلادي ولحين سقوطها في سنة 241 على يد ملك ساساني. فتخطيطها الدائري المتفرد واساليب تنفيذ منشاءاتها الضخمة ولغة عمارتها المميزة التى تعود بمرجعيتها الى الحضارة الرومانية جعلت منها حاضرة لاقليم شاسع، اريد لها - من قبل الحكام الرومانيين - ولغيرها من المدن الاخرى الواقعة على تخوم حدود غريمتهم الدولة الفرثية اولا ثم الساسانية من بعدها، لان تكون مدنا " قلاعية " حارسة لاراضي الامبراطورية المترامية الاطراف. بيد ان حادثة " قوصرتها " او ما يعرف معماريا بـ " بيدمينت Pediment " وهوعنصر معماري مثلث الشكل في اعلى واجهة المبنى، تستحق الذكر في هذا الخضم من الافكار المتداعية التى تنثال انثيالا سريعا على ذاكرتي، تخلصا من تبعات وعثاء السفر الرتيب، وابتعادا عن التفكير في " مجاهل " ما ينتظرنا لو قدر لنا ان نصادف اؤلئك الاوباش المنخرطين في زراعة الفساد والارهاب والقتل في ربوع هذه الارض الشاسعة.

والقصة باختصار شديد يعود تاريخها الى مطلع التسعينات، عندما مرّ الطاغية باحدى جولاته مع حاشيته على الحضر، وشاهد مبانيها الضخمة، وحينها استرعى انتباهه " قوصرة " احد المباني، ولاحظ فيها تشابها وتماثلا مع " قوصرة " البيت الابيض في واشنطن. {وكان ذلك في اوج تجاذباته مع الادارة الامريكية بعد غزوه المشين لدولة الكويت ومن ثم طرده منها بشكل مذل.} فالتفت الى حارسه ورئيس حمايته سابقا " حسين كامل " مكتشفا "، فجأة (!!) ذلك التماثل الهيئاتي بين اشكال " القوصرتين "، ومنطلقا من مستوى ثقافته الضحلة، فقد خلص الى نتيجة بان الامريكان " سرقوا " نتائج الكشوفات المعمارية التى اشتغل عليها الحضريون، هو الذي يعتبر نفسه وريثا شرعيا ووحيدا لهم. لم يفهم " حسين كامل " شيئا عن ما كان يقوله "سيده " عن تماثل مزعوم او سرقات معيبة اقترفها ورثة رعاة البقر. واذ لاحظ الاخير تشتت انظار حارسه وزوغانها في جهات عديدة، نهره، مشيرا بانه يتحدث عن الجزء الاعلى من المبنى، الذي يشبه ذات الجزء من المبنى " الواشنطنوي ". واعترف " كامل " بجهله التام بمثل هذه الامور، اذ تراءى له بان " سيده " يتحدث عن تماثيل مرصوفة في اسفل جدار المبنى، وتبين بان المقصود هو العنصر العلوي منه!.
- ماذا لو نظمنا ندوة، استطرد صدام، يشترك فيها مختصون لتبيان جريمة " السرقة " اياها واظهار رائدية اكتشاف العراقيين لمثل هذه العناصر البنائية ؛ فالحضر بالتأكيد اقدم من ذلك " المبنى الابيض ".
بالطبع، لم يكن احد منا حاضرا ذلك القاء " التاريخي " في الحضر، نحن الذين دعُينا على عجل، وكنت واحدا منهم، اساتذة جامعيين في اختصاصات متنوعة: اثار، جغرافية، وعمارة، وتاريخ ؛ لشرعنة ما افاض به " القائد الضرورة ". ففحوى اللقاء وما دار به من حوار نقله لنا احد مساعدي " حسين كامل " مبينا بواعث دعوتنا، وما هو مطلوب منا، وتحديدا اقرار واقعة السرقة الدنيئة التى قام بها الامريكان والمتعلقة بتزيين " مبناهم الابيض " بعنصر معماري مصدره ومنشأه " الحضر" حصراً، من دون ان يعرف تلك الواقعة احداً، قبل اكتشافها من قبل " حفظه الله ". والدعوة الى تنظيم ندوة " علمية " اوسع تتبنى مثل هذه الاستنتاجات.
وقعت كلمات المسؤول علينا كالصاعقة!. فما يقوله، وما يطلبه منا ذلك المساعد عن " كشوفات " القائد المعمارية والتاريخية ينم عن ضحالة فكرية خالصة وجهل مطبق بابسط المعلومات التى يتعين الالمام بها من قبل ناس عاديين، فما بالك برئيس دولة، ودولة كالعراق تحديداً؟
لم يتسنَ عقد مثل تلك الندوة لاحقا، لا حول " السرقة " المزعومة، ولا تبيان بان الحضر اقدم من القصر الابيض في واشنطن. ليس بسبب تقريرنا الاجماعي بان اصول ذلك العنصر التزييني يعود الى طراز معماري ابدعته حضارات بعيدة عن المدينة العراقية الصحراوية، وان نسخته " الحضرية " ماهي الا ممارسة عادية في استنساخ مفردات ذلك الطراز المعماري ؛ وانما بدواعي تسارع الاحداث السياسية وانشغال النظام الديكتاتوري بالدفاع عن نفسه ازاء الضغوط الدولية المتزايدة والتى وجد نفسه تحت تأثيرها في فترة التسعينات. بيد ان حادثة " القوصرة " اياها ابانت لي مرة اخرى مدى الخواء الفكري والتسطيح الثقافي المتجذر لدى حكام العراق البعثيين الذي تسلطوا على مقاليد الحكم بغفلة من الزمن، ونشروا الجهل والظلامية والقسوة والاكاذيب في هذه البلاد، نتائجها الكارثية نتلمسها الان لدى البعض الذين يعيدون انتاج ذات الاساليب الاستبدادية القمعية، ويتصرفون بنفس السلوكية اياها، ومناداتهم بالشعارات الدينية وانحيازهم الطائفي الاعمى لا يغير من الامر شيئا.

د. خالد السلطاني
معمار واكاديمي

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف